سواء كنت من المعجبين به، أو الناقمين عليه، فإن هذا لا ينفي أن العجوز الماكر "هنري كيسنجر" وزير الخارجية الأمريكية الأسبق، يمثل علامة فارقة في تاريخ الدبلوماسية الدولية، وصاحب بصمة يكاد يستحيل تجاهلها والاستخفاف بها في فنون التصدي ومعالجة الأزمات العالمية، وتسوية الخلافات بين القوى الكبرى.
ولا يزال الداهية، الذي أتم عامه المائة في السادس والعشرين من الشهر الجاري، حاضرًا ومؤثرًا فيما يتعلق بالشأن الخارجي، وتحرص كثير من الحكومات والكيانات على الأخذ بمشورته ونصائحه، فكيسنجر يعمل منذ قرابة نصف قرن كمستشار للحكومات إلى جوار إسهاماته القيمة الأخرى في صورة كتب يباع ملايين النسخ منها، وتعد مرجعًا للعمل الدبلوماسي والسياسي، ومحاضرات يلقيها داخل وخارج الولايات المتحدة، لأنه بدأ حياته العملية كأستاذ جامعي، وحواراته الصحفية والتليفزيونية الثرية.
واللافت أن كيسنجر لم يمكث في المناصب الرسمية التي شغلها بالحكومة الأمريكية سوى ثمانية أعوام فقط لا غير، خلال الفترة من ١٩٦٩ ـ ١٩٧٧، وتولى إبانها منصب مستشار الأمن القومي، ثم حقيبة الخارجية، وكانت فترة مليئة بالأحداث الجسيمة وبالغة الصعوبة، مثل الحرب في فيتنام، وأزمة الشرق الأوسط بفصولها الممتدة والمتشعبة، وبعدها كان مؤسسة متحركة لم تغب الأضواء الكثيفة عنها يومًا، وعرف بذكائه الشديد كيف يٌحافظ على وجوده وتأثيره في محيطه وخارجه.
وميزة كيسنجر الكبرى وسر استمراره بالواجهة، رغم بلوغه من العمر عتيًا، أن لديه دائمًا الجديد الذي يقدمه، ويجيد تشخيص وتوصيف الأوضاع على الساحة الدولية بأسلوب لا يباريه فيه أحد، حتى الآن، وبمصطلحات وعبارات تنقل عنه في أرجاء المعمورة، ويحمل في جعبته خبرة عقود من العمل الميداني، وشبكة علاقات داخلية وخارجية واسعة النطاق ومتنوعة، وهو ما يجعل لما يقوله ويقترحه وزنه وثقله لدى المنصتين والساعين لأعتاب مكتبه.
وكلما ساءت أحوال عالمنا البائس وتعقدت ترنو الأبصار باتجاه مدينة "نيويورك" الأمريكية، حيث يقع مكتب كيسنجر، انتظارًا لقوله، ويحسن العجوز الماكر اختيار التوقيت المناسب للحديث وإبداء وجهات نظره، مثلما فعل بإدلائه بتصريحات مهمة مطلع الأسبوع الحالي لصحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية ذائعة الصيت بين دوائر المال والاقتصاد والسياسة.
في هذه التصريحات الدقيقة لخص كيسنجر ببراعة حال العالم في اللحظة الراهنة بكلمة واحدة دالة، هي "الفوضى"، وأنه رهينة إرادتين متصارعتين في واشنطن وبكين، وأنه على أمريكا الاجتهاد لفتح قنوات حوار مع التنين الصيني وليس التمهيد لخوض حرب معه.
وعدد كيسنجر، الذي يعزى إليه فضل تطبيع العلاقات الأمريكية الصينية بداية عقد السبعينيات من القرن العشرين، أخطاء السياسة الخارجية الأمريكية حيال الصين، وأبرزها الاعتقاد أن بكين تحاول الهيمنة والسيطرة وإزاحة أمريكا من على عرشها الدولي، لأنه يؤمن بأن ما تجتهد الصين للوصول إليه، هو الأمن وليس السيطرة والهيمنة، فهي متوجسة خيفة من تايوان ومحيطها الإقليمي المضطرب.
واتضح من وجهة نظر كيسنجر وبحكم اقترابه من دائرة صنع القرار بالعاصمة الأمريكية أن الصين تشكل هاجسًا كبيرًا وارتباكًا لإدارة "جو بايدين" التي لم تتمكن بعد من صياغة سياسة خارجية حصيفة وواقعية للتعامل مع بكين، وأن أركانها لا ينظرون في الملف النظرة الصحيحة بعيدًا عن قصة التنافس على عرش العالم، وأن المعضلة أمنية وعليهم الالتفات لذلك.
ولعل كيسنجر من بين قلائل في الولايات المتحدة الذين يشيرون إلى القدرات الكامنة غير المنظورة للحليف الياباني الذي تقلقه الاضطرابات الشديدة والخطيرة الحادثة بالقارة الآسيوية، وتنامي القوة العسكرية الصينية، خصوصًا البحرية منها، وأن هذا قد يدفعها للإقدام على إنتاج أسلحة دمار شامل لحماية أراضيها، رغم المعاهدة العسكرية المبرمة مع أمريكا، وبموجبها فإن الساموراي الياباني تشمله المظلة النووية الأمريكية، وأن ما يشجع طوكيو على التفكير في هذا الخيار أنها تمتلك كل المقومات والعناصر التكنولوجية والعلمية والمالية اللازمة لإنتاج هذه النوعية من الأسلحة للدفاع عن أمنها القومي.
وبالنسبة للأزمة الأوكرانية، فهو يرى أن الخطأ الأكبر الذي وقعت فيه أمريكا ومعها الغرب كان قبول انضمام أوكرانيا لحلف شمال الأطلنطي "الناتو"؛ مما أشعل جذوة الحرب الناشبة حاليًا، وبما يفيد أن بلاده تعمدت النفخ في النيران لإذكائها حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه الآن، وأنه حتى لو انتهت الحرب الروسية الأوكرانية، فإن المشكلة مع روسيا لن تختفي، استنادًا إلى أن موسكو لها نفوذ طاغ بالمنطقة المحيطة بها وسوف يستمر، أي أنه على واشنطن إعداد سياسة خارجية تتماشى مع هذه المعطيات، وأن الصراع مع روسيا في بداياته وليس أواخره.
إن كيسنجر قصة يصعب إعلان نهايتها، أو أن نجمه قد أفل، فأمير الدهاء قادر على إدهاشنا والاستحواذ على انتباهنا وتركيزنا وهو في عامه المائة، فقد أضحى نموذجًا يدرس في الحنكة والمكر.