صدر مؤخرًا زبدة كشف الممالك وبيان الطرق والمسالك لغرس الدين خليل بن شاهين الظاهري الحنفي ت ٨٧٣ هجرية ، بتحقيق الدكتور محمد جمال الشوربجي، وذلك عن سلسلة التراث الحضاري بالهيئة المصرية العامة للكتاب.
موضوعات مقترحة
يقول الدكتور الشوربجي ـ محقق الكتاب ـ :"شهد أواخر النصف الأول من القرن السابع الهجري تطورات خطيرة وسريعة على الساحة السياسية المصرية، فاستهلت سنة 647هـ بحملة لويس التاسع مَلِك فرنسا على دمياط، ثم موت المَلِك الأيوبي الصالح نجم الدين أيوب(637-647هـ) بمدينة المنصورة في السنة نفسها، ثم معركة المنصورة وهزيمة لويس التاسع وأسره، ثم مجيء المَلِك توران شاه بن الصالح نجم الدين أيوب من حصن كيفا، وتوليته المُلك في أول سنة 648هـ ثم قتله، وتولية شجر الدر ثم عز الدين أيبك التركماني(648-654هـ) المُلك في السنة نفسها؛ وكان ذلك إيذانًا بنهاية دولة بني أيوب في مصر وقيام دولة المماليك".
لم تلبث الدولة الجديدة أن انشغلت بخطر التتر، فكسرتهم في معركة عين جالوت سنة 658هـ، وضمَّت البلاد الشامية حتى أطراف العراق تحت سُلطانها، عدا بعض مُدُن الساحل التي كانت تخضع آنذاك لاحتلال الغرب الأُوروبي، والتي قام سلاطين المماليك بالاستيلاء عليها الواحدة تلو الأخرى، حتى كان آخرها مدينة عكَّا التي سقطت على يد السُّلطان الأشرف خليل بن قلاوون سنة690هـ، كما دخلت بلاد الحجاز والنوبة وبرقة وغيرها تحت السيادة المملوكية.
وهذه المساحة الشاسعة من الأراضي احتاجت إلى نظام إداري مُحكم للسيطرة عليها، وحمايتها، والاستفادة من خيراتها، وقد ورث المماليك أصول إدارتهم عن الفاطميين والأيوبيين.
وهذا النظام الإداري المُعقَّد احتاج إلى كُتب عامة وخاصة تُيسِّر فهم نظامه الداخلي وسير العمل فيه، فضلًا عن الكُتب الجغرافية التي تصف الممالك التابعة للسلطنة، وظهر هذا النوع بوضوح مع مطلع القرن الثامن الهجري، فألَّف محمود بن سُليمان الحلبي(ت:725هـ) كتابه "التوسل إلى صناعة الترسل"، وصنَّف ابن فضل الله العُمري(ت:749هـ) "مسالك الأبصار في ممالك الأمصار"، و"التعريف بالمُصطلح الشريف"، و"عُرف التعريف"، وكانت كُتبه رائدة لمن جاء بعده، فنقلوا منها، واحتجوا بها، ووضع ابن ناظر الجيش(ت:786هـ) كتاب "تثقيف التعريف بالمُصطلح الشريف".
ثم جاء شهاب الدين القلقشندي(ت:821هـ) فألَّف موسوعته الضخمة المُسمَّاة "صُبح الأعشى في كتابة الإنشا"، وألَّف شمس الدين السحماوي(ت:868هـ) كتاب "الثغر الباسم في صناعة الكاتب والكاتم"، واختصره في كتاب سمَّاه "العُرف الناسم من الثغر الباسم"، أمَّا ابن شاهين الظاهري(ت:873هـ) فألَّف عِدَّة كُتب، عُرِفَ منها: "كشف الممالك وبيان الطُّرُق والمسالك" ومُختصَراته، و"كوكب المُلك وموكب التُّرك"، و"المنيف في الإنشاء الشريف".
هذا فضلًا عن الكتب التي حوت عددًا من رسائل ديوان الإنشاء، كالرسائل المُتبادلة بين سلاطين المماليك وغيرهم من الملوك والأمراء، والمراسيم المُتعلِّقة بالوظائف ونحو ذلك، ومن أمثلة هذا النوع كتاب "قهوة الإنشاء" لابن حِجَّة الحموي(ت:837هـ)، ومجموعة إنشاءات جمعها مؤلِّف مجهول، وهي مُهمة جدًّا في دراسة العلاقات الخارجية المصرية زمن المماليك.
أمَّا "كشف الممالك وبيان الطرق والمسالك" لابن شاهين الظاهري فهو كتاب جعله مؤلِّفه في مُجلَّدين ضخمين، ورتَّبه على أربعين بابًا، ثم اختصره في اثني عشر بابًا، وسمَّاه "زبدة كشف الممالك...".
وكان يُظن حتى وقت قريب أنَّ النشرة التي نشرها بول رافيس هي "زبدة كشف الممالك" المُختصَرة عن الأصل حتى نبَّه الدكتور علي محمد عمر إلى وجود مُختصَر أكبر لـ"كشف الممالك"، تحتفظ به مكتبة أحمد الثالث بتركيا، وسيأتي تفصيل الحديث عن هذا كله في القسم الخاصة بدراسة الكتاب، فدفعني هذا إلى جمع ما أمكن من نُسخ الزُّبدة ودراستها، للتفرقة بين نُسخ المختصَرين، ثم نشر النص والاعتناء به.
تكمن أهمية هذا الكتاب في أنه يقدِّم صورة شبه مُتكاملة عن النظام الإداري والوصف الجُغرافي لدولة المماليك في مُنتصَف القرن التاسع الهجري، كما أنَّ مؤلِّفه تنقَّل كثيرًا في وظائف الدولة كالوزارة ونظر الخاص ونظر دار الضرب وإمرة الحاج المصري ثم الشامي، وفي ولايات الدولة كنيابة الإسكندرية والكَرَك ومَلَطْيَة، وارتبط بصلات صُحبة وصداقة مع كثير من أعيان الديار المصرية والشامية والحجازية، فاكتسب من ذلك كله خبرة ناتجة عن المُشاهدة والمُشافهة والمُمارسة، وضع خُلاصتها في هذا الكتاب، ولهذا تفرَّد بكثير من المعلومات الجغرافية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها لا توجد عند غيره ممَّن وصلتنا مؤلفاتهم، ونقل من بعض الكتب التي لم تصلنا إلى اليوم، كما ترجَم في الزُّبدة لعددٍ من مُعاصريه، وتفرَّد ببعضهم، فضلًا عن القصائد والمقطوعات الشعرية له ولغيره.
يقول ابن شاهين: "وقد أطلعتُ على أحوال مُلك مصر وسُلطانه، وضبطتُ أمورًا وأشياء شتى ما لم أُسبق إليها، وقد أوضحتُ بعض ذلك بهذه "الزُّبدة"، وأتيتُ بالأشياء الغريبة ما لم أُسبق على تنبيهها، ممَّا اقتُبِسَ من السُّنَّة النبوية والكتاب، وقرَّرتهُ العُلماء والعارفون ذوي التجارب والألباب، ممَّن أبلى مُدَّته، وأبذل مُهجته في خدمة المُلوك ومُناصحتهم، وأطنب فيها غاية الإطناب".
ولمَّا كان هدف المؤلِّف كشف الممالك الخاضعة لدولة المماليك جُغرافيًّا وإداريًّا، وإبراز فضل الأماكن المقدسة بذكر الوارد فيها من الآيات والأحاديث والآثار، وبخاصة القدس التي أفاض في فضائلها وأخبارها القديمة إفاضة خارجة عن الحد، ثم أضاف إليه ما يتعلق بالنصائح الملوكية؛ لأنه أهدى هذا المُختصَر إلى السُّلطان الظاهر جَقْمَق(842-857هـ)، ثم ختمه بباب عن أخبار الدهر، وبعض الفوائد الشرعية والطبية وغير ذلك، فخرج في صورة دائرة معارف أكثر منه تخصُّصي في شئون الحُكم والإدارة.
صدر هذا الكتاب عن سلسلة التراث الحضاري بالهيئة العامة وهو الإصدار رقم "48،49" من إصدارات السلسلة التي ترأس تحريرها الكاتبة سلوى بكر، فيما يشغل الدكتور أسامة السعدوني جميل مدير تحريرها، وتهتم بنشر عيون التراث الحضاري على مدى الأزمان.
كتاب زبدة كشف الممالك
كتاب زبدة كشف الممالك