صدر مؤخرًا "كتاب العنوان، المكلل بفضائل الحكمة المتزوج بأنواع الفلسفة الممدوح بحقائق المعرفة" للمؤرخ أغابيوس بن قسطنطين المنبجي، المتوفى بعد عام ٣٣٠هجرية/ ٩٤٢ ميلادي، بدراسة المتخصص الدكتور محمد عبدالخالق عبدالمولى، وذلك عن سلسلة التراث الحضاري بالهيئة المصرية العامة للكتاب.
موضوعات مقترحة
بدوه يقول د. محمد عبدالخالق عبد المولى ـ محقق الكتاب ـ ":إن تاريخ المنبجي الذي نقوم اليوم بدراسته ونشره هو واحد من أهم كتب التراث المسيحي العربي، ذلك التراث الذي أغفله معظم الدارسين والباحثين، فلم تُسَلَّط عليه الأضواءُ ولم يُنظر إلى مؤلفات هذا التراث – التاريخية خاصة - بعين الاعتبار مع أنها تعد من المصادر المهمة التي لا يُمكن الاستغناء عنها في دراسة تاريخنا الإسلامي والمسيحي في مصر وبلاد الشام، بل وفي غيرها أيضاً، وخاصة دراسة الأحوال الاجتماعية والسياسية والثقافية للمسيحيين في ظل حكم الخلفاء الراشدين وحكم الدولتين الأموية والعباسية، وغيرها من الموضوعات المهمة في تاريخنا الإسلامي والمسيحي؛ فكان لابد من نفض الغبار عن هؤلاء المؤرخين المسيحيين وتسليط الأضواء على إسهاماتهم التاريخية ودراستها دراسة موضوعية تكشف ما بها من صدق أو زيف.
ويُمثل هذا الكتاب أحد المصادر التي اعتمدها بعض المؤرخين العرب والمسلمين، فأشادوا به وعدّوه من المصادر التاريخية المهمة، ويقف على رأس هؤلاء المؤرخين "المسعودي"(ت 346هـ/957م) الذي يقول في كتابه "التنبيه والإشراف": "وأحسن كتاب رأيته للملكية (يقصد أتباع المذهب الملكاني) في تاريخ الملوك والأنبياء والأمم والبلدان وغير ذلك كتاب محبوب بن قسطنطين المنبجي، وكتاب سعيد بن بطريق المعروف بابن الفراش المصري".
وكان هذا الكتاب من المصادر التي اعتمدها بعض المؤرخين المتأخرين، مثل: ابن شداد الحلبي (عز الدين محمد بن إبراهيم ت سنة 684هـ/1285م) في كتابه "الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة"، وابن العميد (المكين جرجس بن العميد ت عام 692هـ/1292م) في كتابه المعروف بـ "تاريخ ابن العميد".
وأضاف عبد الخالق أن المصادر التاريخية المسيحية وإن كانت تميل -معظم الأحيان- إلى أن تخص أخبار الكنيسة والمجتمع المسيحي بأعظم قسط من عنايتها، فإنها تُعَدُّ دائماً مصادر عظيمة القيمة لتواريخ العصور التي عنيت بها، وتمتاز هذه المصادر بميزة خاصة، هي أنها تعنى عناية فائقة بتاريخ الدولة البيزنطية، وتفيض في تتبع أخبارها وعلائقها بالأمم الإسلامية إفاضة دقيقة ممتعة، وهذه ناحية لم تخصها الرواية الإسلامية دائماً بما يجب من عناية، بل تعتمد غالباً في تناولها على هذه الروايات المسيحية، ويرجع السر في ذلك إلى أن أغلب الكُتَّاب المسيحيين كانوا يعرفون السريانية واليونانية واللاتينية أحياناً؛ ومن ثم كان اتصالهم بالمراجع الأجنبية وثيقاً وانتفاعهم بها واضحاً.
ويكمل قائلاً:"هكذا نرى أن تاريخ المنبجي والروايات التاريخية والكنسية بوجه عام، فضلاً عن قيمتها وأهميتها الخاصة في سرد أخبار الكنيسة والمجتمع النصراني، وشرح مواقفهما في مختلف العصور والمناسبات، فإنها تلقي الضوء على كثير من نواحي الصلة والعلائق بين الشرق والغرب والمسيحية والإسلام، فهي من هذا الجانب جديرة بالدرس والمراجعة".
من خلال هذه المصادر نستطيع أن نفهم بوضوح موقف الكنيسة وموقف أوليائها حسبما يصوره لنا كتابها. ونستطيع بمراجعة أقوالهم وتعليقاتهم أن نقف على كثير من الموضوعات، التي لم تعن الرواية الإسلامية بشرحها واستيعابها، وخاصة في العصور التي تتجه فيها السياسة الإسلامية إلى الضغط على الكنيسة والمجتمع المسيحي لظروف وعوامل خاصة، فهنا تبدو الرواية المسيحية متنفساً حقيقياً للتعبير عما يخالج الكنيسة ورعاياها من العواطف والآراء نحو المجتمع الإسلامي، وقد تُحْمَل الرواية المسيحية في هذه المواقف على المبالغة والإغراق في أحيان كثيرة، ولكنها تحتفظ مع ذلك بأهميتها وقيمتها في إيضاح كثير من المواقف التي تتجاهلها الرواية الإسلامية أو ترى فيها آراء أخرى.
ولا يقف أهمية تاريخ المنبجي والروايات المسيحية عند ذلك الحد؛ ففي بعض الأحيان، وفي عصور السكينة والسلام، تغدو الروايات المسيحية مصدراً قيماً لاستعراض الحوادث التي تعنى بها، ويبدو الكاتب مؤرخاً لا غبار عليه، ويفيض في شرح الحوادث والشئون العامة وكثير من الأخبار الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وهي نواحٍ لها بلا ريب قيمتها وأهميتها في تاريخنا الإسلامي والمسيحي.
التعريف بالمنبجي
هو أغابيوس بن قسطنطين المنبجي، ويرد ذكر أغابيوس في المصادر العربية الإسلامية باسم محبوب بن قسطنطين الرومي؛ لأن أغابيوس ( Agapius) تسمية يونانية بمعنى محبوب؛ وعلى هذا الأساس فهو من المؤرخين النصارى الشاميين ومن الذين كتبوا باللغة العربية، وهو ينحدر من أصول يونانية.
ونحن لا نكاد نعلم شيئاً عن تاريخ ميلاد هذا المؤرخ، ولا عن طفولته ونشأته الأولى، ولا عن العلوم التي تلقاها، ولا سنة وفاته تحديداً، ولكن من خلال المعلومات القليلة التي وصلت إلينا عنه فإن بالإمكان القول:"إن المنبجي كان على المذهب الملكاني، وإنه كان معاصراً للمؤرخ المصري الشهير سعيد بن بطريق (المتوفى سنة 328هـ/ 940م) بطريرك الإسكندرية وصاحب كتاب "التاريخ المجموع على التحقيق والتصديق"، غير أنه لا يُعرف إذا كان كلاهما يعرف الآخر أم لا، ويبدو أن ابن بطريق تقدمه؛ لأنه مات سنة 328هـ/940م.
وأما المنبجي فقد وردت في تاريخه سنة 330هـ/ 942م، كما كان المنبجي -أيضاً- معاصراً لبعض من كبار مؤرخي التاريخ الإسلامي في حقبه المتقدمة، كاليعقوبي (المتوفى سنة 292هـ/904م)، والطبري(المتوفى سنة 310هـ/922م)، والمسعودي (المتوفى سنة 346هـ/957م)، وقد توفى المنبجي غالباً في وقت قريب من وفاته (أواسط القرن الرابع(.
ينتسب أغابيوس إلى مدينة مَنْبِج شماليَّ الشام، وكان أسقفاً عليها، وتقع هذه المدينة على بعد ثلاثة فراسخ من الفرات، وبينها وبين مدينة حلب عشرة فراسخ، وقد فصل القول في ذكرها ابن حَوْقَل النَّصيبيّ، فقال:"وهي مدينة خصبة حصينة وكثيرة الأسواق الأزلية (يقصد القديمة)، عظيمة الآثار الرومية". كما كانت في زمن ياقوت الحموي (ت626هـ/1228م) "مدينة كبيرة واسعة، ذات خيرات كثيرة وأرزاق واسعة".
صدر هذا الكتاب عن سلسلة التراث الحضاري بالهيئة العامة وهو الإصدار رقم (51) من إصدارات السلسلة التي ترأس تحريرها الكاتبة سلوى بكر، فيما يشغل الدكتور أسامة السعدوني جميل مدير تحريرها، وتهتم بنشر عيون التراث الحضاري على مدى الأزمان.
كتاب العنوان للمنبجي