Close ad
21-5-2023 | 17:50

يلح علىّ هذه الأيام سؤال يؤرقنى ويزعجنى لأبعد حد يمكنك تصوره، ألا وهو: لماذا اعتاد كثيرون منا القبح وكأنه مسألة طبيعية مسلم بها ولا فكاك منها، يلازمنا أينما ذهبنا، وأصبحنا نعتبره قدرًا محتومًا لا مفر ولا نجاة منه، مهما حاولنا وسعينا جاهدين للتخلص منه؟

وما يضاعف انزعاجى وألمى أننا في معظم مراحل تاريخنا القديم والحديث كانت الجماليات من مفردات حياتنا الأساسية، ولا نفرط فيها أبدًا ونتمسك بها بعزيمة وهمة، فقط تجول ببصرك قليلًا في معابدنا الفرعونية الخالدة وما تتضمنه من آيات الجمال والبهاء في كل ركن من أركانها، وفي العصر الإسلامى ومبانيه البديعة وما بها من نقوش وزخارف رائعة وبالغة الدقة والإتقان، وكذا العهد القبطى وما خلفه من كنائس ومزارات تفوق الوصف في جمالها وإبداعها.

وانظر كذلك لما ورثناه من عهد المماليك من عمارة، والقصور الملكية ومنازل أعيان ووجهاء مصر بحقبة حكم أسرة محمد علي، وفي وقتنا الراهن تولى الدولة المصرية، منذ سنوات، اهتمامًا فائقًا وصادقًا بالتخلص من تراكمات وآثار عدوان العشوائيات وثقافتها المتغلغلة للنخاع، وقطعت أشواطًا مهمة في هذا المضمار.

ورغم ذلك لا تزال أكثرية تتعلق بأهداب العشوائية، وتخاصم الجمال وأبسط قواعده وضروراته على المستوى الفردى، وعوضًا عن المحافظة على تراثنا وميراثنا الجمالى وتنميته، إذ بنا لا نلقى له بالًا ونعاديه بشكل سافر مستفز للأعصاب وللعقول.

قد يرى بعضكم أن التقدير السابق فيه ظلم وإجحاف ومغالاة في الرأى، خصوصًا ونحن نتحدث عن قضية أثيرت ونوقشت آلاف المرات، ولا تزال، وأنه تضافرت عوامل خارجة عن يدى ويدك غلت أيدينا كأفراد وسربت من بينها الجمال ليحل مكانه القبح، وأنه لا ذنب لنا، ولا يجب تحميلنا ما لا طاقة لنا به.

يا أعزائى لا يوجد إجحاف ولا نضمر شرًا ولا نغالى، لكننا نقر واقعًا يحيط بنا من الاتجاهات الأربعة، وأفتش معكم عن الأسباب التي أوقعتنا فيه، علنا نصل لعلاج يزيلها من حولنا، ويعيد للجمال وضعه المستحق والمقدر في سكناتنا وحركاتنا اليومية.

وسوف أسوق لكم أمثلة من مشاهد نراها في ذهابنا وإيابنا يوميًا، ولا تستوقفنا، ونمر عليها مرور الكرام دون أن نشعر إزاءها بالحسرة والوجع، ولا نقدر تأثيرها على أطفالنا وشبابنا الذين يشبون عن الطوق وهم يرونها كشىء عادى جدًا لا غضاضة فيه، وقابلة للتكرار من جانبهم وليس للمراجعة والتصحيح السريع.

فكم من منزل يصادفنا واجهته متروكة على الطوب الأحمر، مع أن مالكه أنفق في تشييده ملايين الجنيهات، ولم يكلف خاطره إنفاق مبلغ زهيد لطلائه، على الأقل لتجميل الشكل الخارجى، وجذب السكان إليه، وبعدها يأتي قاطنو العقار ويدفعون آلاف الجنيهات لتملك شقة، أو استئجارها ولا يهتمون بهذا الشق، والظاهرة مستشرية في المدينة والريف على حد سواء، وفي الأخير نسبتها أكبر، بخلاف عشوائية البناء وعدم وجود نظام ولا مواصفات قياسية للارتفاع والتصميم والمسافة الفاصلة بينه وبين جيرانه، وبعده عن حرم الطريق.

والمحليات تتحمل نصيبًا وفيرًا من مسئولية البناء العشوائى ومعها المواطن، الذى يتصرف انطلاقًا من أن تلك أملاكه الخاصة، ويحق له فعل ما يشاء فيها لستر أسرته، وتزويج الأبناء والبنات، ولا داعى للتذكير بعمليات التجريف والتعدى المتواصلة بنشاط وحماس منقطع النظير على آلاف الأفدنة من الأراضى الزراعية، لاستغلالها في البناء، واختفاء اللون الأخضر من مواقع عديدة.

انظر أيضًا إلى الترع والمصارف وما على جانبيها من قمامة ومخلفات بناء وكراكيب وغيرها، وكأنها فضاء مستباح للتخلص من مخلفاتنا بأنواعها، بالإضافة لكارهى الأشجار الذين يتذرعون ويتحايلون بحجج واهية وبشتى السبل لقطعها، وحرمان الناس من فوائدها ومنافعها البيئية والجمالية، ويبدو أحيانا وكأن هؤلاء في عداوة وخصومة مباشرة مع أي لمسة جمال تتزين بها الأماكن والشوارع بالحضر وبالريف.

القبح بدوره يمتد لفئات تحسب أنها تفعل خيرًا تثاب عليه من الرب والعباد بإطعامهم الحيوانات الضالة من الكلاب والقطط التي غزت شوارعنا واستوطنتها، دون مراعاة لما تسببه من أذى للمارة وللنظافة العامة، وإن عاتبت أحدهم يعتبرك من القساة غلاظ الأفئدة، ونزعت الشفقة والرحمة من صدرك، ولا يعنيهم من قريب أو بعيد التشويه الذى يحدثونه وتحويلهم الشارع لمزرعة ضخمة منفلتة العيار تتحكم فيها أهواء وأمزجة أشخاص يخاصمون كل ما هو جميل ويبعث على الارتياح النفسى.

ويبقى التساؤل الحائر: ما الذى جرى لنا، وجعلنا نعطى ظهورنا للجمال؟

هل العلة في التعليم وتقصيره في تبصير الطلاب بضرورة الجمال في حياتنا وتفكيرنا، أم في نمط التربية بالبيت وما يرسخه من سلوكيات ومفاهيم في أذهان الصغار، أم شيوع الإهمال وعدم الاكتراث بمصالح الآخرين، وتقوقع البعض داخل ذواتهم، وتقاعس وسائل الإعلام عن القيام بواجبها اللازم في التوعية وإلقاء الضوء على المثالب، وما تطرحه بعض الأعمال الفنية من قيم تعمق العشوائية واللا جمال .. إلخ.

الاحتمالات كثيرة، لكن أيها الأصح والصواب، حتى نتصدى لها بقوة وبتخطيط جيد، وهذا أمر موكول للخبراء بالدراسات الاجتماعية الذين يتعين عليهم الفحص وبيان ما وصلنا إليه، ووضع روشتة علاجية، وكلى أمل وثقة في أن يتدارك المصريون الظواهر السيئة بالمجتمع، ويضعوا حدًا فاصلا لها في القريب العاجل.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: