بدعوة من د.أحمد زايد مدير مكتبة الإسكندرية ألقى المؤرخ بيتر جران أستاذ التاريخ المصري الحديث بجامعة تمبل الأمريكية محاضرة في بيت السناري، حضر اللقاء كوكبة من المفكرين وأساتذة الجامعة والصحفيين..عن كتابه "استمرارية الاستشراق"، رصد من خلاله النظرة الاستشراقية الاستعلائية تجاه مصر واستخدام هذا المنهج خلال الفترات الاستعمارية..
اللافت حالة الجدل والاعتراضات التي دارت حول بعض أفكاره، قال بيتر جران: إن كتابه "استمرارية الاستشراق" هو الكتاب الرابع ضمن سلسلة كتب نقد من خلالها منهج الاستشراق، الذي بدأ من الستينيات مع حرب فيتنام، مؤكدًا أن الدراسة التي تلقاها في أمريكا ومصر فتحت عينيه على التاريخ والشخصيات المصرية.
وقال أيضا إن أول كتبه كان عن الشيخ حسن العطار من عصر الحملة الفرنسية على مصر، ومن هنا زاد وعيه بمدى أهمية مصر فى تشكيل الهوية الأمريكية التي تعتمد على الدين المسيحى الذى ظهر فى الشرق الأوسط بفلسطين ومصر.
وتحدث جران أيضا عن القضية الأساسية التي يرصدها الكتاب وهي طبيعة العلاقة بين مصر والمجتمع العربي، وأن هناك نمطا معينا في النظرة لهما تم إلصاقها بهما خلال فترة الاستعمار، ومازالت هذه النظرة مستمرة ويتم تدريسها للأطفال الصغار في الغرب، بأن الدول التي كانت مستعمرة لم تكن دولا وإنما مجتمعات متفرقة، كما يتجاوزون قضية أن أجدادهم كانوا قتلة!!
وبهدوء أشار إلى أن بعض الأفكار الموجودة في الجزء الأول من كتاب "مصر الحديثة" للورد كرومر، والممتدة إلى الوقت الحالي، تشير إلى أن مصر كانت مجرد تجمع لمجموعات، وأنها لم تكن دولة منذ انتهاء عصر الفراعنة!!
وأضاف أن مراحل الاستعمار فى مصر يمكن دراستها من كتاب كرومر، الذى أشار إلى أفكار خاطئة من خلاله.. منها أن مصر كانت في جمود لا تستطيع الخروج منه سوى بمساعدة المستعمر!! وإيمانه بالفكرة الاستعمارية التي تقول: إن الشعب المصرى غير مستعد للديمقراطية ولا تناسبه!!.
هنا شعرت بغضب شديد ذكرني بهذا المندوب الإنجليزي السامي الذي أمضى في مصر ما لا يقل عن ربع قرن وكانت سياسته استعمارية استبدادية.. وكانت حادثة دنشواي ١٩٠٦سببا في تقديم استقالته وخروجه من مصر.
كانت أفكار بيتر جران غريبة وصادمة وبعضها كان مغلوطا، خالفه بشدة الدكتور محمد أبوالغار في نظرته عن الهوية المصرية، واعترض قائلا إن الهوية المصرية تكونت في الفترة التي سبقت ثورة ١٩١٩، تلك الفترة التي لم يعتد بها المؤرخ الأمريكي في كتاباته مع أن المصريين يعتبرونها حدثًا مهمًا في تاريخهم.
وكذلك علق الدكتور عاصم الدسوقي، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر قائلا: عندما عاش جران في مصر واطلع عليها عن قرب، بدأت أفكاره تتغير وخرج عن منهج الاستشراق الغربي، مشيرًا إلى أن اللورد كرومر كان يعمل على إثارة الفتنة في مصر بين المسلمين والمسيحيين، ولكن المثقفين المصريين تنبهوا لهذه الفتنة، واستخدم نفس هذا المنهج التآمري في الهند!!.
علق د أحمد زايد قائلا: أظهر جران في كتابه عن الاستشراق نظرة الغرب المتمركزة حول الذات الأوروبية تجاه الشرق، والطريقة الاستعلائية التي تحدثت بها الأدبيات الغربية ما قبل الاستعمار وخلاله، وقد تناول جران في كتابه تحليلا نقديا لتراث اللورد كرومر وكيف تم استخدامه لتبرير الاستعمار في مصر.
وللأسف يعتبر كتاب كرومر مرجعا رئيسيا للدراسات الأثرية حول مصر في القرن التاسع عشر! ولكن هذا الكتاب نموذج للتحليل المشكوك فيه، فهو يضم تصورات مسبقة ونمطية حول مصر والشرق، وينتقد بيتر جران في الكتاب هذه النظرة النمطية والمسبقة، وفي الورقة التي تم توزيعها على الحضور من إدارة المكتبة، قال المؤرخ جران عن أفكار كرومر: أنا أتحدث عن شيء مؤثر، ولكنني لا أوافق عليه مطلقا.
الجدير بالذكر أن بيتر جران مؤرخ وباحث مشهور في مجال التاريخ العربي والإسلامي، واشتهر جران بكتابه "الجذور الإسلامية للرأسمالية: مصر ١٧٦٠- ١٨٤٠" الذي نشر في العام ١٩٧٩ والذي يتناول العلاقة بين الإسلام والاقتصاد الرأسمالي في مصر.
ويعتبر جران من أبرز المفكرين الذين ساهموا في تطوير فهم التاريخ العربي والإسلامي وتأثيره على العالم، وقد كان له تأثير كبير على الدراسات الأكاديمية في هذا المجال، و كتابه "استمرارية الاستشراق" يعد مرجعا مهما في دراسة المفهوم الاستشراقى وتأثيره على العلاقات الثقافية بين الغرب والشرق الأوسط، فقد قدم جران في الكتاب تحليلا شاملا لتطور المفهوم الاستشراقى وكيف تم استخدامه كأداة لتمييز الشرق عن الغرب وتعريفه بطريقة سلبية.
ويتناول الكتاب أيضا تأثير الاستشراق على الثقافة العربية، وكيف تم استخدامه في بناء الهوية الوطنية العربية، كما يتحدث الكتاب عن تأثير الاستشراق على العلاقات السياسية والاقتصادية بين الغرب والشرق الأوسط، وكيف أدى ذلك إلى الاستمرارية في النظرة النمطية للشرق وتفسيره على أساس الصورة النمطية المسبقة.
ويقدم بيتر جران في الكتاب أيضا نقدا للمفهوم الاستشراقى، ويتحدث عن الحاجة إلى إعادة تقييم العلاقات الثقافية بين الغرب والشرق الأوسط، وإنهاء النظرة النمطية للشرق واعتماد منهجية جديدة تتميز بالتعاون والتفاهم المتبادل..
للأسف مازال الاستشراق أسلوبا فكريا غربيا في رؤية الأشياء والتعامل معها، يقوم أساسا على أن هناك اختلافا جذريا في الوجود بين الغرب والشرق، وأن الأول يتميز بالتفوق العنصري والثقافي على الثاني!