قيل إن التكنولوجيا خطر يتهدد الكتاب المطبوع وأن عصر الكتاب المقروء انتهى، فهل حقاً من الممكن أن يتهدد العقل عقلاً أقل تطوراً؟! أم أن الخطر الحقيقي على الكتاب هو اللاعقل؟
قديماً كانت الحروب الهمجية هى العدو الأول للكتب، إذ كانت تقام محارق جماعية لكبرى المكتبات العالمية الشهيرة تأكيداً لانتصار المنتصر، وطمساً لذاكرة الشعوب.
واليوم نشهد سلوكاً مماثلاً لبعض الهمج من الحاقدين على الإسلام يحرقون المصاحف الشريفة جهلاً منهم بأن كثيراً من المسلمين هم مصاحف تمشي على الأرض يحفظون القرآن الكريم عن ظهر قلب. فهل باستطاعة أعداء الكتب أن يهزوا عرشه؟
الآن هناك موجة قادمة من التقنيات المتطورة تتمثل فى الذكاء الاصطناعى والميتافيرس وتكنولوجيا الجيل الخامس.. تأتى تلك الموجة في ظل مخاوف من انهيارات اقتصادية ومجاعات تتهدد البشرية في المستقبل طبقاً لبعض الدراسات المتشائمة، فهل يصبح الكتاب المطبوع عبئاً يتم التخلص منه تدريجياً لصالح الكتاب الإلكتروني؟
إعدام الكتاب عبر التاريخ
شهدت الحروب والصراعات الهمجية واللاأخلاقية استهدافاً متعمداً للنيل من التراث الحضاري للأمم عبر حرق الكتب والمكتبات الضخمة الجامعة لمختلف علوم الأرض، وقد تكرر هذا كثيراً فى التاريخ الإنسانى منذ ما قبل الميلاد؛ كما حدث من حرق مكتبة آشور بانيبال عام 612 ق.م وحرق مكتبة برسيبوليس 330 ق.م والأشهر منهما ما حدث من حرق مكتبة الإسكندرية العظمى 48 ق.م على يد يوليوس قيصر.
المغول فعلوا ما هو أفظع وأفدح؛ فكانوا يبيدون في طريق اجتياحهم لبلدان العالم كل ما هو حضاري ومنه الكتب.. وعندما دخلوا بغداد عاصمة الخلافة العباسية آنذاك أتوا على كل ما تحويه مكتبة بغداد الكبرى من كتب وصنعوا بها جسراً لعبور نهر الفرات حتى إن النهر تحول من البياض إلى السواد جراء ما سال من أحبار الكتب داخل النهر الجاري!
الحملات الصليبية أحرقت عشرات المكتبات الكبرى فى طريقها لأورشليم واعتبرت أن مثل تلك الفعلة الشنعاء نوع من التقرب للرب!
ومثل هذا حدث عندما سقطت الأندلس فى قبضة الموتورين.
حرب ضد القراءة
فطن الغزاة القدامَى إلى حقيقة أن التخلص من الكتب بالحرق والإغراق والإعدام والمصادرة لا يوقف سريان الأفكار واستمرارها ربما بصورة أقوى وأشد رسوخاً مما سبق. ما جعلهم يتخذون منحى مختلفاً يعمدون من خلاله إلى مواجهة الأفكار بأفكار مضادة، أو تزييفها بإدخال ما هو مكذوب بها، أو مجابهة الأفكار بالصور والمرئيات بأساليب متنوعة عرفت بالغزو الفكري.. إنه نوع جديد من الحرب ضد الكتب بطريقة ناعمة ماكرة لا تصادرها وإنما تدمر ما بها من أفكار سليمة لتستبدلها بأفكار مضللة.
مثل تلك الطريقة الخبيثة استطاعت أن تفعل ما لم تستطعه الحروب والمحارق.. فأمكن عن طريقها تشويه العقائد وتزييف التاريخ ونشر التطرف وإخضاع الأمم.
التليفزيون والسينما والفضائيات والسوشيال ميديا تلك هي الآن سارقات الأبصار والعقول، فلا وقت لقراءة كتاب ولو لساعة واحدة كل يوم، لكن الوقت كله متاح للبقاء أمام الأفلام والبرامج والإعلانات والأغانى لساعات أطول من ساعات النوم! ذلك هو التحدي الأكبر أمام الكتاب المطبوع اليوم..
طبقاً لبعض الدراسات الحديثة أن العرب لا يقرأون إلا فى النادر إن قرأوا.. وأن متوسط عدد ساعات القراءة لديهم يبلغ من خمسمائة إلى ستمائة دقيقة فى الشهر أى ما يعادل نحو عشر صفحات سنوياً أكثرها لمطالعة الصحف والمجلات! وأن ما يتم طباعته من الكتب سنوياً إذا قورن بتعداد العرب فى الوطن العربي فإنه يوازى كتاب واحد لكل 12 ألف عربي! بينما على الناحية المقابلة فإن الدول الغربية المصدرة لثقافة الصورة والمرئيات بها أرقام مختلفة لعدد المطبوعات والكتب ومدى انتشارها بين العامة فى المتنزهات ووسائل المواصلات بل وحتى فى السجون. إنهم يحضوننا لاستهلاك ثقافتهم المغرضة، ويحتفظون هم بهويتهم الثقافية التي يضمنون بها تفوقاً حضارياً يدوم!
ذخائر الغد
الحرب المدعاة بين الكتاب الرقمي والمطبوع تأتي فى صالح الكتاب المطبوع وتحوله فى حقيقة الأمر إلى كنز وتحفة وتراث يحرص أبناء اليوم على اقتنائه، خوفاً من أن يقل إنتاجه غداً..
كثيرة هي الندوات والمحاضرات والمساجلات التي شرحت المخاطر التي تواجه الكتب المطبوعة بسبب ارتفاع تكلفتها واحتياجها لخدمات كتابة وطباعة وتوزيع ونقل وتخزين وإمكانية تعرضها للتلف.
بينما الكتاب الإلكتروني على عكس ذلك زهيد التكلفة طويل العمر قليل الحاجة للخدمات يمكن تخزين آلاف منه فى ذاكرة إلكترونية ضئيلة الحجم. لكن فى المقابل يدافع الناشرون التقليديون عن مهنتهم بأن عشاق الكتاب التقليدي لا يستطيعون الاستغناء عن سحر الكتاب الورقي وأن القراءة الإلكترونية المثيرة للملل لا يمكن مقارنتها بالقراءة الحية الممتعة لكتاب تحبه وتصحبه وتستمتع بمظهره وملمسه.
مثل تلك الحالة من المواجهة لا تثير عندى مخاوف أو شكوك فى ضياع المعرفة ذاتها، لأن الاختلاف بين الكتاب الورقي والإلكتروني هو مجرد اختلاف وسائل وشكليات لا اختلاف في الجوهر. تماماً كما تطورت الكتابة على الحجر إلى العظام والأخشاب والجلود ثم إلى الرقاع والأوراق، وكما تطورت الكتابة باليد إلى الطباعة اليدوية ثم الطباعة الآلية.. إنه اختلاف وسائل لا أكثر.. بل حتى لو شهدنا يوماً يأتى فتختفى فيه الكتب المطبوعة لتحل محلها الكتب المرئية والمسموعة، فسوف تتحول المكتبات العامة والخاصة إلى نوع جديد من المتاحف التراثية، وسوف يصير اقتناء الكتب المطبوعة نوعاً من الرفاهية لا يملكها إلا أصحاب الثروات.. ستتحول الكتب المطبوعة حينئذ لكنوز حقيقية!!
الإعلام والنشر.. بالذكاء الاصطناعى
أحدث صيحات الكتابة والنشر التجريبية تقنية تشات جى بى تى التى طورتها شركة أوبن للذكاء الاصطناعى من خلال تدريب الذكاء الاصطناعي باستخدام قواعد البيانات النصية على اختلاف مصادرها بما في ذلك الكتب والمجلات ونصوص ويكيبيديا، بحيث تم إدخال 300 مليار كلمة في ذاكرة العقل الإلكتروني بغرض إعادة تقديمه في أية صورة تُطلب منه.. هكذا يمكن لتشات جي بي تي عند الطلب أن يصوغ لك نصاً معقداً يبدو وكأنه كُتب من قبل محترفين... سواء كان هذا النص علمياً أو أدبياً أو صحفياً، الأمر الذى قد يفتح الباب للاستغناء عن قطاع كبير من العمالة فى مجالات الكتابة بأنواعها ومنها الكتابة البحثية والأكاديمية وفى مقدمتها النشر والصحافة والإعلام! بل إن إمكانيات مثل هذا الشكل من الذكاء الاصطناعى تصل إلى حد إمكانية استنساخ طريقة كبار الأدباء القدامَى كأن نجد روايات لنجيب محفوظ لم يكتبها قط! فإذا كانت مثل تلك القدرات الهائلة فى الكتابة تولدت لدى الذكاء الاصطناعي وهو لم يزل بعد صبياً يافعاً، فما بالنا إذا نضج وتطور أكثر؟!
السؤال الأهم في حالتنا هو: كيف نعبر نحن تلك الفجوة بين أمية معرفية وثقافية وتقنية وغزو فكري أعطب العقل العربي لنقفز إلى عصر قادم يختلف فيه شكل الثقافة عما هو الآن؟!
[email protected]