باعتبارى من الشغوفين، بل من المولعين، بسينما الأبيض والأسود، وشخصياتها الجميلة الفذة، ومنها عبقري الشر إستيفان روستي، تابعت على مدار اليومين الماضيين على أحد التطبيقات مشهدًا عبثيًا يجدد الأسى على ما وصل إليه حال بعض مَن يعيشون وسطنا بهذا المجتمع المتسامح الذي جبل على الانفتاح واحتضان الجميع بدون استثناءات ولا تفريق على أساس العرق والدين وغيرهما.
القصة باختصار شديد أنه نشر مقطع فيديو كوميدى لا تتجاوز مدته ٤٠ ثانية لإستيفان الذى رحل عن عالمنا عام ١٩٦٤، وتفاعل المتابعون معه، حيث أشادوا في تعليقاتهم بأدائه التمثيلي المتميز والفريد، واختلفوا حول أصله وفصله وما إذا كان من النمسا، أو إيطاليا، وتبادلوا تصحيح المعلومات الواردة بهذا الخصوص، والكل تقريبا أجمع على الترحم عليه، وافتقادنا أمثاله من فنانين كوميديين.
إلى هنا والأمور تسير بشكل طبيعى ولطيف، إلى أن قرر أحدهم إفساد الجو الصحو الخالى من الغيوم بمعاتبته مَن يترحمون عليه وهو ليس مسلمًا، وانقلب السجال من حديث فنى إلى دينى ما بين مؤيد ومعارض، أسمعكم تقولون بصوت عالٍ: تانى، وتبدون تعجبكم من إصرار هذه الزمرة الدائم على إثارة النعرات الطائفية، رغم ما قيل وسيقال مستقبلا بهذا الصدد، وكأنهم يقبضون بأيديهم على مفاتيح الجنة والنار ومصير العباد، الذى لا يعلمه سوى المولى في عليائه.
هؤلاء يسدون آذانهم وأسماعهم وعقولهم، ولا يعترفون بأن رب العرش العظيم خلق الكون على التنوع والاختلاف، وأن واجب العبد قبول ذلك عن طيب خاطر ووعى، واحترام معتقدات وأديان الآخرين، وتوقيرها كما ينبغي لها التوقير وعدم الجور عليها، والاستهزاء بها، أو التقليل من شأنها وممَن يعتنقها، وتلك، ومع الأسف، بديهيات أعيد التذكير بها ملايين المرات في حوادث مشابهة في عصور وأزمنة سابقة.
ثم ما العائد من شغل الناس واستفزازهم، وإهدار طاقاتهم في الرد والتفنيد سوى شحن النفوس، وإشعال وإذكاء نيران الفتن، والتراشق المتبادل عبر وسائط التواصل الاجتماعى بلا طائل، وأن يأتي متنطع بعد قرابة ٦٠ عامًا من رحيل إستيفان روستى ليتكلم ويثير جلبة بعدم جواز الترحم عليه.
واسمحوا لى بالإشارة إلى فساد تفكير هذه الفئة الضالة غير الواعية، وعدم استيعابها أو فهمها الفهم الصحيح للإسلام وقواعده التي تحض على الابتعاد عن التشدد، وما يسبب الفرقة والإخلال بموازين المجتمع واستقراره وسلامه، فالدين الاسلامى الحنيف يولى اهتمامًا كبيرًا وجليًا بالبعد الإنساني بمنظوره الشامل في التعاملات بين البشر على اختلافهم.
وعن نفسي فما أفهمه مما سلف وأؤمن به النظر للمحيطين بي في كل المجالات والتخصصات بناء على صنيعهم وما يتركونه بعد مماتهم وهل كان مفيدًا وحسنًا للأجيال التالية وسيكتب له الاستمرارية، أم أنه سينزوى ويخفت فور رحيل صاحبه، وكأنه أصبح هباءً منثورًا.
إن طبقنا هذه القاعدة عمليًا على شخص مثل إستيفان روستى فسنرى أنه لا يزال يحيا بيننا، ويمتعنا ويرسم البسمة على شفاهنا، ونقبل على أفلامه بنهم، مهما تكرر عدد مرات مشاهدتنا لها، لأنها تسعدنا وتدخل السرور والحبور على نفوسنا، وتنسينا كثيرًا من همومنا الحياتية وما تضعنا فيه من ضغوط وتوتر، فهى مثل البلسم الذى يرطب جروحنا، ويحفزنا ويدفعنا على المضي قدما، والتغلب على ما يصادفنا من عثرات وتحديات تفت في عضدنا وتشعرنا بالوهن.
وبالله عليكم أليس إمتاع الناس ورسم البسمة على شفاهم بشكل محترم يخلو من الإسفاف والصفاقة وما يعكر صفو الأسرة، بقيمة كبرى يستحق الإنسان القائم بها والملتزم بها وضعه في مرتبة إنسانية عالية، وحري بنا أن نشكره عليه ونذكره بالخير كلما تردد اسمه في مناسبة، أو جلسة عامة وخاصة، وأن نشمله بدعائنا بالرحمة كإنسان اجتهد لإسعادنا، حتى وهو في قبره.
ففي أقل وأضعف التقديرات أنه ترك ثمرة طيبة نافعة لسنوات وجوده على سطح الأرض، بينما يمكث عليها آخرون دون فائدة ترجى، ويشكلون عبئًا ثقيلًا عليها، ولا يتمخض عنهم سوى ميراث بغيض من الكراهية تجاه الآخر، وفتن تهلك الحرث والنسل، وتكدر الأجواء الصافية وتسممها، فأيهما أنفع وأجدى للبشرية وللسلم الاجتماعى؟
وهذا الذي يضن بالترحم على إنسان غادر دنيانا دون اعتبار أنه نفس خلقها الله، وأنه عز وجل هو الوحيد الذي سيحاسبه فيدخله إما الجنة أو النار، كيف سيكون في تعاطيه مع أهله وجيرانه ورفاقه بالعمل وبمَن يقابلهم بالطريق العام، بالتأكيد سيخلو من الرأفة والمعاملة الحسنة، بما يتعارض كلية مع ما أمرنا به الإسلام من التعامل الحسن والرفق بعباده، حتى لو كانوا غير مسلمين.
ورحم الله الشرير الجميل والمبدع إستيفان روستى وكل من كان سببًا في رسم البهجة والسرور على وجوهنا، وجزاهم عنا خيرًا.