بعد كتابة الجزء الأول من مقالات الرجاء؛ جاءتني بعض الرسائل؛ تنعي حال أصحابها وتبين قسوة الحياة عليهم؛ كما تشي بما تفعله المشكلات التي تنشأ بين الأزواج؛ اخترت منها رسالة نشرتها في مقالي السابق؛ واليوم أنشر رسالة أخرى؛ لمست فيها المشاعر الإنسانية المتباينة؛ التي تعج بها النفوس؛ وآمل أن نقرأها بعين من التمعن ففيها دروس قيمة.
أنا طبيبة تخرجت منذ بضع سنوات؛ وكان تقديري امتياز مع مرتبة الشرف؛ فوقع الاختيار عليَّ لألتحق بسلك التدريس الجامعي؛ لأزامل أساتذة عظام؛ كنت أراهم القدوة والنموذج المثالي في العلم والعمل الطبي المحترف؛ ودائمًا منذ صغري كنت أرى الطب والطبيب في مكانة سامية؛ فهو يؤدي دورًا لا يمكن تقييمه بأي شكل في سبيل إزالة الألم عن الناس، وأحيانًا تطبيب النفوس لمواجهة أعباء الحياة.
أنا من أسرة تبدو مفككة؛ أبي انفصل عني وعمري 5 أعوام؛ وكنت الطفلة الوحيدة؛ وذهب ليتزوج امرأة أخرى؛ أما أمي السيدة الطيبة المكافحة؛ فقد قررت الانخراط في تربيتي؛ وصممت على ذلك؛ ومن تبعاته؛ عدم الزواج مرة أخرى؛ كي لا يشاركني الاهتمام أحد.
لا أتذكر أن رأيت والدي مرة ثانية بعد الانفصال؛ كما أذكر جيدًا كيف عانت أمي كثيرًا في سبيل الإنفاق عليَّ وعلى تعليمي؛ فبعد زواجها من أبي تركت العمل؛ وبعد انفصالها عنه كان الحل الأوحد البحث عن عمل؛ خاصة أن أبي قد نسي تمامًا وجودي، ومن ثم انقطع إنفاقه عليَّ.
تمر الأيام بحلوها ومرها الذي كان يزيد عليه؛ ولا أنسى ما تعرضت له من مواقف كانت تحتاج لوجود أبي في حياتي؛ وكل موقف كان يمر دون وجوده؛ كان يزيدني غضبًا لا يمكن تخيله؛ فكيف لأب أن ينسى كريمته هكذا ببساطة عجيبة؛ وأين حقوقي عليه!!
ومع كل تفوق كنت أحققه بتخرجي بالمركز الأول في دراستي الإعدادية ثم الثانوية العامة؛ كنت فيها الأولى على إدارتي التعليمية؛ يزداد تعلقي بحلم دخول الطب؛ حتى دخلت كلية الطب في أعرق جامعات مصر.
وقتها كنت منبهرة تمامًا بكل ما أراه؛ ومن حسن الحظ أن الانبهار؛ لم يؤد إلى تثبيط العزيمة؛ بل كان حافزًا للتفوق؛ وكنت أرى زميلاتي وهن يروين الحكايات المتنوعة عن دور الأب في حياتهن؛ حتى الزملاء لم تخل الذكريات من طرائف آبائهم في حياتهم.
طوال تلك السنوات؛ كانت أمي تجاهد من أجل أن نعيش حياة مستورة؛ ومن أجل أن نحيا بكبرياء بين الناس؛ وأشهد الله أنها نجحت بما يفشل به أقوى الرجال؛ فكل مرة كنا نتعرض فيها لمحنة؛ كانت تخرج منها أكثر إصرارًا على مواصلة الكفاح.
مرت سنوات الدراسة بيسر كنت أدعو الله به؛ كما مرت سنوات المراهقة بأمان كانت تدعو الله به أمي؛ لأنها كانت بمثابة الأم والأب في آن واحد؛ وكانت تخشى عليَّ من ويلات فقدان الأب المتخاذل عن القيام بدوره.
أنا أيضًا كنت دائمًا أشعر أن هناك شيئًا ينقصني؛ وأسأل نفسي لماذا تركني أبي بهذا الشكل المحزن؛ وعن ما ارتكبته من ذنوب وأنا الطفلة الصغيرة ليكون عقابي وحدتي؛ ولأن أمي واصلت الليل بالنهار لتعوضني الحرمان؛ قررت ألا تشعر بأن هناك ما ينقصني؛ واكتفيت أن بمحادثات بيني وبين نفسي عن ما قد يزعجني؛ وأحمد الله أنها لم تعرف شيئًا قد يشعرها بوجود ما ينقصني.
مرت سنوات الدراسة بجهدها وكفاحها؛ ولم أكن كغيري من البنات تعرف أن تحب وتحلم بمن يحبها؛ فكيف أصرح لحبيبي بحكايتي؛ وما هو مبرر هروب أبي من حياتي؛ ظلت تلك المعضلة ساترًا قويًا يمنع أي أحد من الاقتراب أكثر من علاقة الزمالة فقط.
حتى شعور الإعجاب قررت الاستغناء عنه، رويدًا رويدًا بت أشعر أني في حالة استغناء تام؛ حتى ولو استغناء مؤقت؛ لكنه استغناء يحمينى من ذلك الشعور الجميل الذي يأخذ صاحبه للدخول في مساحات لا قدرة لي على الدخول إليها.
وجاء يوم التخرج وحصولي على تقدير الامتياز، وحصولي على الترتيب الأول على كل الزملاء؛ وهنا تبدأ مرحلة جديدة من حياتي؛ مختلفة تمامًا عن سابقتها؛ فقد انشغلت بالحياة العملية وزاد شغفي بها؛ وكنت أضع كل تركيزي وجهدي لاستكمال دراستي من خلال العمل مع أساتذتي العظام؛ وأتذكر أنه كانت تأتي عليَّ أوقات أقضي خارج البيت أكثر من 36 ساعة متصلة في أقسام الطوارئ؛ وكنت لا أحبذ ترك العمل إلا بعد الاطمئنان على الحالات التي كنت أتابعها.
بعد إنهاء دراسة الماجستير بقليل؛ وفي إحدى ليالي العمل؛ كنت أستعد لمغادرة المستشفى؛ فوجئت باستدعاء لوصول مريض مصاب بأزمة قلبية؛ على الفور توجهت للطوارئ؛ لأجد إنسانًا في العقد الخامس من عمره؛ ومعه زوجته وشابان في العشرينيات؛ ويبدو عليهم ملامح القلق الشديد؛ وحينما اقتربت من الرجل؛ شعُرت بأنني أعرفه؛ هاتف داخلي يظل يحدثني بأن هناك صلة ما تربطني به.
بدأت على الفور متابعة الحالة؛ ومن فضل الله تم تدارك الأمر؛ بعد عمل اللازم؛ ثم نقله لغرفة الرعاية المركزة لمتابعة الحالة؛ كما يحدث في مثل هذه الأمور.
المفروض أن عملي انتهى؛ ويأتي زميل آخر للمتابعة وعمل الفحوصات اللازمة؛ إلا أن هناك شيئًا جعلني انتظر لمتابعة الحالة بنفسي؛ حتى سمعت من حوار الرفقاء اسم المريض.
وفي الحلقة المقبلة نكمل إن شاء الله.
[email protected]