في خطوة جريئة للغاية، توافقت اليابان وكوريا الجنوبية على القفز فوق كثير من الحواجز والمعوقات، لتسريع وتيرة تطبيع علاقاتهما الثنائية، عبر التركيز على ما يجمعهما من جوانب محل اتفاقهما، وتنحية ما يباعد بينهما من خلافات ومنغصات تتصل بقضايا تاريخية وآنية.
ولم تكن القمة الأخيرة في سول بين رئيس الوزراء الياباني "فوميوكيشيدا"، ورئيس كوريا الجنوبية "يون سوك يول"، وهى الثانية بين الزعيمين خلال أقل من شهرين، سوى تأكيد على رغبة البلدين في التدليل على قدرتهما على التعاون الوثيق دون حل كامل ونهائى للخلافات التاريخية الناشبة بين سول وطوكيو، ومثلت عائقًا أمام تمتع الجارتين بعلاقة طبيعية خالية من الشوائب الدائمة.
الأكثر أن كيشيدا ويول تبادلا الإشارات والإجراءات الإيجابية، لإظهار المرونة، وإشاعة الدفء في أوصال العلاقات الكورية الجنوبية اليابانية الباردة، حيث قدم الأول اعتذارًا مبطنًا للشعب الكوري بإقراره بما تعرض له الكوريون من ألم تحت الحكم الاستعماري الياباني لشبه الجزيرة الكورية ـ ١٩١٠ ـ ١٩٤٥ ـ وموافقته على قيام وفد كورى جنوبي بالتحقق من عمليات تصريف المياه الملوثة بمحطة "فوكوشيما" النووية التي تثير قلق وهواجس حماة البيئة في كوريا الجنوبية.
في المقابل، فإن حكومة يول أوجدت مخرجًا ناعمًا للمطالبات والضغوط المتواصلة من مواطنيها لإجبار اليابان على دفع تعويضات مالية لأسر المتضررين من العمل القسري، خلال الحقبة الاستعمارية اليابانية، بالإيعاز لمؤسسات حكومية بدفعها بلا مساهمة من جهة طوكيو التي رفضت مرارًا وتكرارًا هذه الدعوات.
الباعث على هذه الخطوات وغيرها لم يكن فقط رغبتهما الأكيدة في إذابة جبال الثلج التى تعترض سبيل تقدم علاقتهما، لكن أيضا لأنهما قررا اتباع قاعدة أن الضرورات تبيح المحظورات، وأنه لا بديل أمامهما حاليا سوى الاصطفاف الجيوسياسي، لمواجهة أخطار تشكل تهديدًا مشتركًا لأمنهما القومي.
فالبلدان محاصران بتهديدات مصيرية خطيرة تجعلهما مجبرين على توحيد قواهما والوقوف بخندق واحد، التهديد الأول مصدره كوريا الشمالية التي تواصل بهمة ونشاط ملحوظ تطوير قدراتها النووية والصاروخية، ولا تكف عن إجراء تجارب صاروخية لأحدث ما تنتجه ترسانتها من صواريخ باليستية عابرة للقارات يغطى مداها الأراضى اليابانية والكورية الجنوبية وأجزاء من الولايات المتحدة، ويتناثر حطامها بين مقاطعات اليابان وكوريا الجنوبية.
التهديد الثانى قادم من الصين التي تعزز قوتها العسكرية بشكل مطرد، لا سيما البحرية منها، وتهدد باستخدامها إن أصرت تايوان على متابعة سياساتها الانفصالية عن الوطن الأم "الصين"، ووجهت عدة رسائل مباشرة بهذا الخصوص لأمريكا التي تعتبرها بكين المشجع الأساسى لتايوان على سلوكها الانفصالي وتزودها بأسلحة متطورة، وتوفد كبار مسئوليها لتايبيه لإبلاغها بأنها مشمولة بالدعم الأمريكي غير المحدود، ويتخوف العالم من احتمال نشوب الحرب في مضيق تايوان في أي لحظة، مما سيكون له أبلغ الأثر على الأمن والسلام في شمال شرق آسيا، وحركة التجارة العالمية التي يمر ٤٠٪ منها تقريبًا عبره.
التهديد الثالث والأخير يتعلق بمجريات الحرب الروسية الأوكرانية وتداعياتها السياسية والاقتصادية على سول وطوكيو، وإزاء التهديدات الثلاثة السابقة فإن البلدين من أقرب حلفاء الولايات المتحدة التي تتخذ موقعًا لها على الضفة الأخرى من النهر بصددها.
فواشنطن على خلاف مع الصين وروسيا وكوريا الشمالية، ويهمهما، بل إن مصلحتها تقتضى حشد القوى خلفها، والتنسيق مع كوريا الجنوبية واليابان في مواجهتها، لذلك كان من بين الأمور التي شدد عليها كيشيدا ويول في مؤتمرهما الصحفى المشترك أن تعاون البلدين يمثل ضرورة ليس من أجل مصالحهما وحسب، ولكن بغية تحقيق السلام والازدهار في العالم، خاصة في ظل الوضع الدولي الخطير الراهن.
وتحدث الزعيمان بلسان المدافعين عن الديمقراطية الليبرالية المهددة بحكم أنها كانت بمثابة أساس لسلام المجتمع الدولي، وهنا تلميح مباشر لروسيا والصين على وجه الخصوص وأنهما لا يؤمنان بمبادئ وقواعد هذه الديمقراطية ويكرسان لما يناهضها ويضيق عليها.
بهذا المفهوم كان على سول وطوكيو اختيار المعسكر الذى ستحتميان به، ويتماشى مع عقيدتهما السياسية والاقتصادية، وفي الوقت نفسه يلبي مصالحهما، ومن ثم اختارتا جانب حليفتهما الولايات المتحدة، لأن الأمر لم يكن يحتمل أنصاف الحلول أو الاختيارات، فإما أن تكون يمينًا أو يسارًا، حتى لو أدى ذلك لاستدعاء أجواء ومظاهر الحرب الباردة وما يلحق بها من استقطاب.
لكن اختيار معسكر محدد لا يعني في نظر كوريا الجنوبية واليابان إغلاق جميع الخيارات الأخرى المتاحة أمامهما، فمع قبولهما وتسليمهما بواقع التوترات الحادة بين أمريكا والصين مثلا، إلا أنهما لا يغفلان عن كون التنين الصيني شريكًا تجاريًا رئيسيًا لهما، ويتعين المحافظة على شعرة معاوية، لأن ما يحكم العلاقات الدولية والإقليمية في البداية والنهاية، هو المصلحة والمنفعة ولا شيء غيرهما.
على كل، فقد تحررت سول وطوكيو من أسر الفكرة القائلة بأن الجارتين لا تستطيعان المضي قدمًا دون تسوية كاملة وشاملة لخلافهما التاريخى المزمن، وأنهما ليستا في علاقة محصلتها "صفر" التي يكسب فيها أحد الأطراف.