هكذا هو قدر مصر، وهكذا هو قدر جمال حمدان، كلاهما مجبول من طينة فريدة.
الأولى شغوفة بالصبر، والثانى شغوف بفك وتركيب حركة الجغرافيا ومكر التاريخ.
والصبر أصل متين من أصول مصر الثمينة، وهي لا تراقب ولا تشاهد من موقف المتفرج، بل من موقف الفاحص المتأمل المنتظر، وفى لحظة مواتية تنقض على «شياطين الإنس».
ومصر مسكونة بالتأمل والانتظار، وحمدان مسكون بحراسة الكنز.
يومًا بعد آخر تتأكد أن محاولة بناء الأسوار الشائكة حولها، شمالا وجنوبا وغربا وشرقا، حقيقة واقعة، لكنها تنظر إليها كأسوار بيت العنكبوت، لأنها أمة منبثقة ذاتيا، متماسكة عضويا، أشبه بحجر ألماس، وعلى أبوابها أولياء وحراس.
عاما بعد آخر نتأكد أن وصية جمال حمدان واجبة التنفيذ.
في ذكرى هذا الشهيد الحى، في السابع عشر من أبريل من عام 1993 أستعيد بعضا مما كتبته قبل عام في مقالين تحت عنوان: ”استعادة جمال حمدان”، وفى الاستعادة درس وتجربة، فقد اكتشفت أن “شياطين الإنس” يطحنون نفس الشعير، ويأكلون من نفس الخبز.
يقول جمال حمدان”: «ببساطة.. إن مصر، أقدم وأعرق دولة فى الجغرافيا السياسية للعالم، غير قابلة للقسمة على اثنين أو أكثر، مهما كانت قوة الضغط والحرارة.. مصر هي “قدس أقداس» السياسة العالمية والجغرافيا السياسية”، ثم يؤكد: «فى كلمة واحدة.. شخصية مصر هى التفرد”، ويرى في النهاية.. “أن مصر بالذات محكوم عليها بالعروبة”.
ومرة أخرى يضع قانونها أمام الدنيا: “مصر تظل في النهاية وأساسا هى مصر، وتظل بوصلتها هي المصرية”، ويصفها بأنها ذات “التاريخ العريق، والأصالة الذاتية، والحضارة الانبثاقية”، وبذلك تختلف عن “دول بلا جذور جغرافية» والتى - أي هذه الدول - «كأنها الغراب الذي يقلد مشية الطاووس».
ولأن جمال حمدان ذو رؤية ثاقبة ونافذة، يرى أن مصر أم الدنيا من حيث الأمة الوسط، والأمة التى لعبت دورًا فى كل العصور في الأبعاد المجاورة.
صحيح أنه ينظر إليها كآسيوية بالتاريخ، وإفريقية بالجغرافيا، ونيلية بالحياة، ومتوسطية أوروبية بالثقافة والحضارة، ولكنه يراها مثالا منفردا ووحيدا، وجديرة بأن تكون قلب العالم القديم والحديث.
وحسبما يشرح لنا نحن الأبناء: كانت تيارات العقائد والثقافات تهب من آسيا، وتشكل عمق الرؤية المصرية على مدى حقب طويلة، وتتمازج مع مصر بالسلالات، خصوصا فى الشام الجنوبية (فلسطين)، ثم الشام الكبير، وطريق البحر المتوسط، بينما كانت قاعدة الحياة تأتى من إفريقيا النيلية، وتتجه شمالا حيث المتوسط المربوط بمصر.
لكن حمدان يحذر المصريين من مرض “الدوار الجغرافى”، مؤكدا أنه مع الدورات التاريخية المتلاحقة لم يحدث أن أصيبت مصر بهذا الدوار “ببساطة.. لأنها مركز الدائرة وقطب الرحى”، وحسب تعبيره الدقيق: ”فإن مصر وحدها هي الجيروسكوب الراسخ والبوصلة القائدة” والجيروسكوب هو الذي يحدد مكان السفينة فى أى زمان، وأى مكان.
ومكان ومكانة السفينة المصرية محددان ومعروفان، وقادرة على الإبحار فى قلب الأمواج العالية، وفى مواجهة العواصف العاتية.