Close ad

تركة محمد علي باشا

9-5-2023 | 14:27

عملية التحديث التي قادها محمد علي باشا في مصر، ما زالت تبهر المثقفين من مؤرخين، ومن سائر النخب الأدبية والدبلوماسية، ونخب قانونية وسياسية، وربما شعبية، وغالبًا ما تُطرح الأسئلة حول عوامل الصعود وأسباب الانكسار في مشروع محمد علي التحديثي، ورغم شبه الإجماع على وضوح فكر محمد علي نحو التقدم ووضوح رؤيته وإصراره على تنفيذ خططه، فإن السؤال المحير هو كيف استطاع محمد علي إقامة دولة حديثة على أنقاض شبه دولة في غضون سنوات معدودة. 

واستقرار فكرة أن محمد علي هو "مؤسس مصر الحديثة" ليست وليدة اليوم أو السنوات الأخيرة، وإنما ترجع إلى مائة عام على الأقل، عندما بدأ إسناد اللقب لمحمد علي بين عامي 1902 و1905، "وهما السنتان اللتان احتفل فيهما القصر بمئوية توليه الحكم"؛ حيث "شهد النصف الأول من القرن العشرين مزيدًا من الاحتفالات التي نظمها القصر" لإحياء ذكراه. (كتاب فلاحو الباشا للأمريكي كينيث كونو ترجمة سحر توفيق المشروع القومي للترجمة سنة 2000). 

وحالة شبه الدولة التي كانت عليها مصر عندما فاجأها الاحتلال الفرنسي، حاضرة عند معظم المؤرخين، من حيث عزلها العثمانيون عن العالم، وركزوا على نهب ثرواتها، عن طريق وكلائهم من المماليك. وقد قامت القوى الوطنية المصرية بتولية محمد علي الحكم بعد طرد الاحتلال الفرنسي، رغم أنه ليس مصريًا، وإنما لما رأوه من عزمه وحسن تدبيره. وبعد أن استتب الأمر له اعتبارًا من العام 1807 بعد نجاحه مع المقاومة الوطنية في إلحاق الهزيمة بحملة فريزر الشهيرة، بدأ خطواته التحديثية ببناء جيش وطني، وتأسيس كل الصناعات المغذية لشرايين هذا الجيش من مدارس وأطباء وصناعة وغذاء وكساء، ثم جاءت خطوة البعثات الشهيرة إلى أوروبا. ولم تستقر له الأمور في بلد لم يعرف هذه الصناعات من قبل، إلا اعتبارًا من العام 1820 بتأسيس المدرسة الحربية الأولى في أسوان، ثم البدء الفعلي في إنشاء جيش حقيقي في العام 1824، بعدها أقام صناعة حربية متطورة. 

يميل المؤرخون إلى اعتبار المؤسسات الحديثة لمحمد علي لخدمة الجيش، الذي رأى أنه السبيل الوحيد لخدمة مشروعه وحلمه ببناء إمبراطورية عظمى قاعدتها في مصر. ولكن الذي ينبغي ألا نغفل عنه هو الآثار الجانبية لذلك الهدف، حيث لا يمكن بناء أو تحقيق تقدم في مجال من دون النهوض بالمجالات المحيطة كافة. فالتقدم جسد واحد، والحركة إلى الأمام لكي تنجح لا يمكنها ترك مجالات أخرى وراءنا. فبناء الجيش لابد له من وعي وطني عام، وأن تتوافر لعناصره سبل التعليم الحديث، وأن يتم رفده بالتسليح المتقدم وبالغذاء والكساء، وهو ما تقام في سبيله المصانع وتحدث الأساليب الزارعية، والعناية بتعليم وصحة أفراده من أبناء الشعب مما تنشأ من أجله المستشفيات والتعليم الطبي والهندسي والمنظومة التعليمية بشكل عام وكانت كلها مجانية. 

ويتحدث معاصرون لمحمد علي عن أنه "من العجيب أن الأهالي في بدء افتتاح المدارس لم يكونوا راضين عن إدخال أبنائهم فيها، بل كانوا نافرين منها، فكانت الحكومة تجبرهم على دخول المدارس (المجانية) في غالب الأحيان بالقوة، ولكن ما لبث الأهالي أن رأوا ثمرات التعليم فأقبلوا عليه" (كتاب حكام الدولة المصرية في عصر الأسرة العلوية تأليف لواء طبيب محمد رضا محمد عوض مركز الأهرام للترجمة والنشر سنة 2022). 

لقد تم اختبار قدرات الجيش المصري بعد تأسيسه بأعوام قليلة في حرب المورة عام 1827 (حرب استقلال اليونان) التي انتهت بتوقيع معاهدة بين الحلفاء الغربيين تقضي بخروج الجيش المصري من اليونان وعودة الأسرى اليونانيين من مصر. بعد ذلك انخرط محمد علي في صراع مع الدولة العثمانية وكاد جيشه بقيادة ابنه إبراهيم يمحوها من الوجود، لولا التدخل الغربي، الذي انتهى بمعاهدة لندن 1840 التي أعادت مصر إلى حدودها الجغرافية المعروفة. ويظل السؤال قائما وقد حرصت على كتابة التواريخ والأعوام لأبين العدد المحدود من السنوات التي استطاع خلالها محمد علي النهوض بمصر في المجالات كافة، وإن كان الغرض الأساسي عسكريا، بل إمبراطوريًا. 

ورغم ضرب مشروع محمد علي التوسعي في نظر البعض إلا أن الأثر في الداخل المصري ظل قائمًا، يمارس فعله في التاريخ، فظلت تركة محمد علي تعطي النموذج المستدام على قدرة بناء المدارس والمستشفيات والمصانع على دفع التقدم، وأن غياب مؤسساتها يقود إلى التخلف. لقد وطن محمد علي لإحلال القوانين الوضعية مكان ما كان سائدًا من شرائع مستمدة من النظام شبه الإقطاعي الذي كان سائدًا في البلاد، وغير طريقة إدارة السلطة وحلت ثقافة جديدة تنظر إلى المرأة ودورها نظرة جديدة. 

وكان للإصلاحات الزراعية "التي نفذها تأثيرات كبيرة في الوضع الاقتصادي في مصر" والتي "كان هدفها إيجاد معنى جديد للمواطنة" فيما "أسست سياسته وتشريعاته مبدأ المساواة بين مكونات الشعب المصري" و"برزت التعددية الثقافية في النظرة للهوية والمواطنة". لقد أخذ محمد علي باشا بقوانين العصر وبدأ يؤسس لثقافة مجتمع مدني ينفتح على الكفاءات العلمية والمهنية والإدارية (محمد علي وعبدالناصر ارتسامات النهوض العربي الصعود والانكسار تأليف فرحان صالح الهيئة العامة لقصور الثقافة 2018).

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة