غيبوبة.. قبل فوات الأوان

3-5-2023 | 12:32

التصالح مع النفس هو البوابة الرئيسية لحياة إنسانية سوية، لذلك أقول لمن يعتبرون الحديث عن ذلك دربًا من الرفاهية الفكرية أو البلاغة الأدبية، أقول لهم إن الأمر أخطر كثيرًا مما تتصورون؛ لأنه إذا فقد الإنسان تصالحه مع نفسه، فلا خيار أمامه إلا أن يعيش متخاصمًا معها، ناقمًا وساخطًا عليها، رافضًا إياها بكل ما تحمله من ماضٍ وحاضر ومستقبل، أو - فى أفضل الأحوال - نجده يعيش متحايلًا عليها، ناقمًا ورافضًا لها وساخطًا عليها، لكن في صمت تغلفه ابتسامة وتعبير عن رضاء زائف ينكشف بمنتهى السهولة مع أول صدام معها. 

قد يبدو ذلك سهلًا يسيرًا للبعض، فتراه يردد بمنتهى القناعة: أنا متصالح جدًا مع نفسي، لكن الأمر له طرق يجب أن يسلكها للإنسان ليرى من خلالها ويدرك مدى فهمه لمعنى التصالح ومغزاه، أولها مصارحة النفس بمميزاتها وعناصر قوتها، وقبل ذلك والأهم مصارحتها بعيوبها ومشكلاتها، نواقصها وسلبياتها، وقبولها دون خجل أو إنكار أو تنكر لها، ثم معالجتها وتقويمها بهدوء وروية حتى يكون التصالح بداية عهد جديد بين الشخص ونفسه بدون رواسب أو أحقاد أو ضغائن يمكن أن تنغص عليهم علاقتهم. 

وإذا تحدثنا عن التصالح مع النفس، فأرجو عزيزي القارئ ألا تتعجب ولا تندهش إذا قابلت أناسًا تعرفهم جيدًا فتجدهم يفاجئونك بالحديث عن أنفسهم، وكأنك لم تعرفهم يومًا، وكأنهم يحدثونك عن أناس آخرين، لا تتساءل حينئذ هل هم يصدقون بالفعل ما يقولون أم لا...؟ دعني أجيبك، نعم يصدقون، هكذا تبدأ الحكاية دائمًا.. في البداية يعلمون جيدًا أنهم يقولون ما لا يفعلون، لكن مع المداومة على تكرار الحديث تحدث المصيبة، يصدقون أنفسهم، يصدقون ذلك الواقع الزائف الذي صنعوه بأيديهم من نسج خيالهم.

لا تندهش فذلك يريحهم ويزيل من على كاهلهم مسئولية أفعال قاموا بها ويريدون نسيانها بدلًا من تصحيحها، يصورون لأنفسهم أنهم ملائكة نورانية لم تتسبب يومًا فى مشقه لأحد، وكل من حولهم شياطين مذنبون يفعلون بهم الأفاعيل، يفصلون لأنفسهم رداء الضحية بكل دقة فى كل موقف، والآخرين مجرد قتلة مأجورين! لا تنزعج عندما تجدهم يدعون لأنفسهم صفات مثل الصبور والمخلص المحب لكل من حوله، أو القنوع.. وربما الهادئ أو المتواضع.. وقد تكون المدبر قليل الطلبات.. فى حين أنها صفات لم يقتربوا منها يومًا، وربما لا تعلم عن وجودهم شيئًا.

القاعدة الأساسية في هذا العالم أن الخطأ وارد من الجميع، لسنا ملائكة وأيضًا لسنا شياطين، ولا شك أن سلوك الإنسان هو نتاج العديد من العوامل والظروف التي أدت به إلى ذلك، لكننا إذا أطلقنا العنان لذلك النهج في التفكير، فلا حساب على أحد إذن، فكل واحد سوف يبرر لنفسه بأنه ضحية الظروف، ناسيًا متعمدًا أن قناعاته وسلوكه قد فرضوا على من حوله التصرف معه بشكل معين يراه مجحفًا، وأن عبئًا يقع على عاتقه فى تغيير سلوكه. 

هل أخطأ الآخرون في شيء؟ ربما.. لكن الخطأ الأكبر أن تقنع نفسك أنك ذلك الملاك الذي لم يفعل شيئًا سوى ذرف الدموع في صمت أمام قسوتهم وجبروتهم، متحملًا في ذلك كل أشكال الهوان ومضحيًا بسعادتك وراحتك حتى لا تواجههم بحقيقتهم فلا تجرحهم بتلك الحقيقة التي ربما لا يراها غيرك. 

يا عزيزى "كلُّ بني آدم خَطَّاءٌ، وخيرُ الخَطَّائِينَ التوابون"، هكذا أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلك هي حقيقة خلقتنا.. لكن كما ترى خير الخطائين التوابون، وليس المتجاهلون أو المتناسون، معنى ذلك أن أعترف بخطأي وأعتذر عنه، وأقبل أيدى الآخرين، وربما أقدامهم حتى يسامحوني، ليس في ذلك عيب.. العيب هو العناد والإصرار على ارتداء عباءة المظلوم الضحية المغلوب على أمره . تلك العباءة التى قد يبدو ظاهرها مريحًا للعين يكمن بداخلها شيطان الكبر والعناد الذي يدمرك وأنت لا تشعر، يعبث بأفكارك ويرتبها كيفما شاء وأنت مغيب لا تدري، يرسم لك طريقًا على هواه وأنت تظنه هواك وراحتك، الأمر بين يديك فلا تلومن إلا نفسك.. أنت قادر على تغيير نفسك وسلوكك، أخرج من تلك العباءة اللعينة، اقذف بها في النار قبل أن تقذف بك إليها دون رحمة، ارسم طريقك ورتب أفكارك بيديك، لكن ذلك لن يحدث إلا إذا نظرت إلى الماضي وواجهت نفسك بأخطائك وعيوبك بكل صدق وبدأت في معالجتها بكل اجتهاد. 

واعلم جيدًا أن تأخرك في ذلك سوف ينعكس بلا شك على أولادك في المستقبل، على قدرتك على التعامل مع أخطائهم وهفواتهم التي لابد وأن تحدث شئت ذلك أم أبيت فهي سنة الحياة، حينئذ بدلًا من أن تتذكر أخطاءك وهفواتك وأنت فء مثل هذا العمر، وتقدم لهم النصح والخبرة اللازمة للوصول بهم إلى شاطئ الأمان، سوف تقف أمامهم لتردد دون شعور أن ذلك خطأ وهذا عيب، وتخبرهم بكل فخر واعتزاز أنك لم ترتكب أبدًا مثل تلك الحماقات، من أين أتيتم بتلك البلادة وهذا العقل الرديء؟ عندما كنت في مثل عمركم كنت كذا وكذا.. هذا ما عودت نفسك عليه وصدقته، والحقيقة أنك ربما كنت تفعل ما هو أسوأ وأنت فى سنهم، خطأ يا عزيزي، ولن يصلح هذا الخطأ إلا تصالحك مع نفسك ومع أخطائك ومواجهتك لها بكل شجاعة. 

تصالح مع نفسك قبل أن يفوت الأوان.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: