ما بين رمضان شهر الصوم وبين باقي أشهر العام هناك فروق فرضها الله، سبحانه، فروق في العبادة، وفي الفضل، وفي التقوي، إضافة الى فروق أخرى تميز بها الشهر الكريم في التوقيت، فتحولت معه حياة المعنيين به إلى فلك آخر ومدارات مغايرة، حملت معها سمات طيبة اختصت بها ايامه مقارنة بباقي أيام العام بأكمله، فالعيد سُنة، والفرحة بالعيد سُنة، واستقبال العيد والفرحة من تعظيم شعائر الله سبحانه: "ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ".."الحج – 32".
نستهل أوقات ما بعد رمضان، بأيام عيد الفطر المبارك، ولعل هذا العيد يقدم لنا فرصة للتأمل تمنحنا مساحة من التوقف والتدبر في جوهر العبادة لله وحده، مساحة وكأنها "هدنة" لكي نعد أنفسنا لما بعد رمضان، لكي نواصل هذه الحياة الدنيا، وكما وصفها الله بأنها لعب ولهو وزينة، وتفاخر بين الناس بالأموال والأولاد، كأننا نخرج من حاضنة التقوي علي شاطئ المغفرة الرمضانية، للعودة مجددا إلى أيام بقية العام، وكأنها السباحة في المياه من جديد لتضعنا كل لحظة، في فتنة واختبار.
هل نستطيع أن نغير ما بأنفسنا، خلال فترة الهدنة هذه، هل بإمكاننا أن نتغير لكي نصبح أكثر فهما لدنيانا لندرك كم هي زائلة، وإلى أي مدى هي فانية لا قيمة لها، إلا بالذكر والتدبر للوصول إلى رصيد ينفعنا للحياة الحقيقية وهي الحياة الآخرة "دار القرار".
فإذا كان جوهر الصوم في العقيدة الدينية كتبه الله علي المؤمنين لكي تسمو ارواحهم، وتتخفف أجسادهم من نهم الاستهلاك، وتصح أبدانهم من كثرة الطعام، وتنجو البيئة والطبيعة من سطوة الاعتداء، فلعل ما بعد شهر الصوم يكون وقفة وهدنة لكي يسترجع الإنسان صحته، وتتعافى الطبيعة لكي تجدد مواردها.
سئل أحد الحكماء، كيف تري الدنيا، فأجاب: رأيتها "كظل عصفور طائر.."..ظل وليس أصل، وعصفور ضئيل الحجم، وطائر أي أن رؤيته لم تستغرق ثوان معدودة.
وقد وضع الله في كتابه الكريم دستورًا للحياة بقوله: "اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ".. "الحديد - 20".
في موضع اخر يفسر لنا المولى، عز وجل، مغريات الحياة بمفرداتها والسبيل إلى النجاة منها: "زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ".. "أل عمران - 14".
هذه المعاني الجليلة تحمل من التفكر والتدبر مثل ما تحمله من البهجة والفرح، وإذا كان العيد هو منحة من الخالق لخلقه، وعباده المصريون هم من أوجد الأعياد في تاريخ الإنسانية، فمصر علمت الدنيا الأعياد، فهم أول من احتفلوا بأقدم الأعياد الزراعية ثم تداخلت الاحتفالات بموسم الإنبات والحصاد، لتصبح اعياد ومناسبات اجتماعية منذ نحو 5 آلاف عام، حيث كان النهر الخالد "النيل"، هو الملهم والمؤسس لهذه الانشطة الإنسانية، كما يعد "شم النسيم" أقدم عيد شعبي بدأه المصريون القدماء، ومازال هذا الاحتفال رمزا للربيع والنماء وتجدد الحياة.
أي أن أعياد العالم جميعها جاءت من مصر، وظهور الهلال عيد من أيام الفراعنة، ورأس السنة الهجرية كانت تحتفل بها مصر، كما يشرح عالم المصريات د.وسيم السيسي كيف أن عبارة "مصر أم الدنيا" هي حقيقة علمية وليست عاطفية أو وطنية، وأن هذه الحقيقة اكتشفتها دراسة أمريكية، حيث أجرت دراسة على الأجناس البشرية، وأكدت أن جينات المصريين جميعا مسلمين ومسيحيين واحدة، وشعب واحد، والحقيقة الثانية أن 87.6% من جينات "توت عنخ أمون" موجودة فينا جميعا، وأن جينات المصريين، منتشرة في جينات العالم كله منذ 55 ألف سنة، ولذلك فقد دعا عالم المصريات، إلى أن تحتفل مصر برأس السنة المصرية، معتبرا أن مصر أهدت العالم السنة الشمسية، فهي "أم الدنيا" في الحياة.. في الطب والفلك والتاريخ، والأهم أنها علمت العالم قانون الأخلاق، حتى الرياضة وخاصة المصارعة هي في الأصل مصرية وليست يونانية كما سجلتها "مقابر بني حسن" بالمنيا.
واحتفل الأجداد بشم النسيم، ويسمونه "ني- يارو" بمعنى يوم الانتهاء والاكتمال كموعد لاكتمال الفيضان وتحول بعد ذلك إلى عيد النيروز المصري، كما يوضح خبير الآثار د.عبدالرحيم ريحان مدير عام البحوث والدراسات الأثرية بجنوب سيناء بوزارة السياحة، شارحا بأن هذا التقويم نتج عن شغف المصري القديم بنهر النيل وحرصه على رصد فيضانه ونتيجة مراقبة المصري القديم النجم "سبدت" أو سيروس وهو "نجم الشعرى اليمانية" لعدة سنوات، بعد ان توصلوا إلى تحديد طول دورته الفلكية بدقة غير مسبوقة.
العيد فرحه، وهذه الفرحة هي في حقيقتها هدنة لاستيعاب ما مضى، والاستعداد لما هو قادم، فنحن جميعًا في حاجة الي حالة "فرملة" أي هدنة، لكي نتأمل القيمة الحقيقية لأجدادنا، ولعلنا نتمكن من استقراء المستقبل لأبنائنا.
[email protected]