20-4-2023 | 13:19

نمر بصدف مختلفة؛ وقد لا نشعر بها؛ ولكن قد تكون إحداها خيرًا من ألف ميعاد؛ وهذا تفسير يبدو مقبولًا للصدفة التى بصدد سردها؛ حيث شاءت الظروف أن استقل سيارة أجرة؛ في يوم شديد الحرارة؛ كنت أتمنى أن تقف لي أى سيارة؛ المهم التحرك من مكاني؛ والهروب من حر الشمس الشديد.

وقفت سيارة بسيطة؛ يقودها رجل ستيني؛ ولم يسألني عن وجهتي كما يفعل الغالبية؛ بل أشار لي بالركوب؛ ثم سألني عن وجهتي؛ وحينما نظرت إليه لأُخبره؛ رأيت وجهًا هادئًا؛ تشعر أنك رأيته كثيرًا من قبل.

بعد عدة دقائق؛ حدث موقف نراه جميعًا يتكرر مئات المرات على مدار اليوم؛ إحدى السيارات المجاورة؛ انحرفت عن مسارها تجاهك؛ وبدون الدخول في تفسيرات ذلك الانحراف؛ تظل ردود الأفعال عليه تدور حول الغضب بدرجاته؛ وقد تصل أحيانًا لتشابك الألسنة إن لم يكن الأيدي.

إلا أن قائد السيارة فعل أمرًا آخر كان مفاجئ لي تماما؛ فقد دعا لقائد السيارة المجاورة؛ "الله يسامحك"؛ لحظتها شعرت أنني أمام شخص استثنائي؛ ولأن ما يفعله أمر معتاد عليه؛ فسكت بعد تلك الجملة الراقية؛ وأكمل سيره بهدوئه الذي شعرت به فور استقلالي السيارة.

المفاجأة كانت مذهلة؛ وفضلت ألا تمر الجملة هكذا دون استيقاف لتلك اللحظة الجميلة؛ لأعي ماذا يقصد ذلك الرجل؛ فقلت له؛ إنني أول مرة أشاهد هذا الرد على هذا التجاوز الذي يستفز أغلب الناس.

هنا بدأت الصدفة تتحول لأحد أهم الدروس المهمة في الحياة؛ حيث قال الرجل الطيب؛ كل السائقين يفترض أن يكون غرضهم الأهم؛ العودة سالمين لبيوتهم؛ ولكي يحدث ذلك لابد أن يسود الحرص على الآخر كل الناس؛ لو حرصت على السيارة المجاورة؛ من المؤكد أنك ستعود آمنا إن شاء الله؛ لأن ذلك سيكون فعلًا عامًا.

أقود سيارة أجرة منذ أكثر من 40 عامًا؛ في بداياتي؛ اشتبكت مع أحد السائقين بسبب انفلات الأعصاب؛ يومها كنت في كامل لياقتي الصحية؛ فانتصرت عليه؛ وسببت له أذىً شديدًا؛ كان أقل درجاته أن ملابسه اتسخت بشكل كامل؛ بخلاف الإيذاء النفسي والبدني.

بعد الشعور بالفوز والإحساس بنشوته؛ حدث احتكاك آخر مع سيارة أخرى؛ واحتدم الأمر؛ حتى وصل لاحتكاك أقوى من سابقه؛ هنا حدث العكس؛ فقد انتصر عليَّ غريمي؛ وبت في موقف صعب تمامًا؛ وخسرت مثلما خسر غريمي السابق.

بعد أن هدأت الأمور؛ تيقنت أنه لو قلت لغريمي الأول الذي انتصرت عليه "الله يسامحك" ما كان حدث شجار انتصرت فيه؛ وما أعقبه شجار خسرت فيه؛ لأنني استخدمت قوتي؛ فربي أراد أن يعلمني أن هناك الأقوى؛ لذلك خسرت النزال التالي.

منذ تلك الليلة؛ اتخذت قرارًا؛ بأن أحافظ على وجود مسافة ثابتة بيني وبين الناس؛ ولو حدث مثلما حدث معي من 40 سنة؛ وانحرفت سيارة عليَّ أو ما شابه؛ يكون ردي "الله يسامحك" ومنذ ذلك الحين وحتى اللحظة لم أتعرض لموقف مشابه؛ بل لم يحدث ما يعكر صفو يومي أثناء القيادة؛ لأن الأهم أن أعود سالمًا؛ فأسعى وبحرص شديد على المحافظة عل سلامة المحيطين؛ فيكون جزاء الله أن يحفظني.

تأمل تلك الكلمات البسيطة من شأنها أن تحول حياتك من أقصى الشطط إلى أقصى درجات الاعتدال والهدوء؛ فتنعم وتتنعم؛ هكذا القيادة السلسة المنضبطة؛ تصل بصاحبها إلى بر الأمان.

إن هذا الرجل الطيب يتبع ثقافة نادرة الوجود الاقتداء بها من شأنه يغير نمط المجتمع تمامًا لمجتمع آخر بناء ومنضبط بما يؤدى بنا إلى التركيز في الإنتاج؛ ومن ثم تحقيق درجات من التقدم نستحقها؛ ولكن نحتاج إلى بذل جهد لحصدها.

أتمنى أن يسود سلوك هذا الرجل المتحضر المحترم ويعم؛ وعلينا جميعًا تزكيته والثناء عليه؛ حتى يكون نهجًا يتبعه الناس في بلدنا.

،،، و الله من وراء القصد

[email protected]

كلمات البحث