مصر هى مركز الثقل الدينى الحقيقى على هذا الكوكب، فهى التى عرفت الوطن وعرفته، وترافق مع ذلك أنها عرفت الدين وعرفته، ونحن نرى ذلك جليا فى أقدم آثارها وأخبارها الموغلة فى القدم، خصوصا فى الحواضر الكبرى، وتجمعاتها عبر التاريخ.
موضوعات مقترحة
لكن الغريب، أن تكون الصحراء المصرية شاهدة على ذلك، شاهدة على فكرة الوطن وحدوده، خصوصا فيما بقى من القلاع والمعابد والكنائس والمساجد وغيرها من المشاهد، وعلى الدين وحاملى رسالته، فكما عبر الأنبياء الأنهار ليصلوا مصر ويعيشوا فيها، عبروا أيضا الصحراء دخولا إليها وخروجا منها، لكن الأغرب من ذلك، أن تكون الصحراء المصرية، شاهدة على بقاء الدين حتى بعد الموت، ففى جزء منها تجتمع الأديان الثلاثة حية، حتى ولو فى حجر، أو فى حائط طينى فى مدينة الأبدية.
إذا كانت الصحراوات المصرية، تحمل المعلوم المقدس، كما تحمل السر المقدس، فإن واحاتها تربط بين المعلوم والمحجوب، بل تحمل الإشارات الخفية بين السماوات والأرض، كما تحمل الرابط بين الحياة والآخرة، ولعل ذلك يتبدى جليا فى مدينة "الأبدية" أو مدينة "الخلود" المعروفة جغرافيا بمدينة البكوات أو البجوات، والأصل هو "القبوات"، فكلمة «جبوات» هى نطق أهل الوادى لكلمة «قبوات» لأن المدينة التى تكون من 263 هيكلا، ما بين بيوت وكنائس تعلوها جميعا القباب المبنية من الطوب اللبن، التى يرجع تاريخها من القرن الثانى الميلادى إلى القرن السابع الميلادى، حيث فر أقباط مصر بدينهم خوفًا من الاضطهاد الرومانى للمسيحية، واستقروا فى الصحراء بعيدًا عن أيدى الأباطرة الرومان.
فى أغلب المراجع الأثرية والتاريخية، بما يعنى أن مدينة البجوات، التى عاش فيها المصريون المسيحيون لخمسة قرون، كانت بعيدة عن يد السلطة المركزية، بعدا يتيح لساكنيها وعلى مدى 500 سنة الأمن والطمأنينة، من بطش السلطة المتمركزة فى العاصمة والمدن والحواضر الكبرى.
غير أن هذا يحتاج لكثير من التمحيص والتدقيق والبحث لأسباب عدة، أولها أن مدينة الأبدية تقع على بعد 2 كم من واحة أو مدينة الخارجة، وواحات مصر لم تكن معزولة عن السلطة المركزية فى العاصمة، منذ العصور المصرية القديمة وما تلاها من عصور، بل إن الواحات كانت ملجأ لأهل الوادى فى أيام الجدب والعوز، المرتبط غالبا بعدم حضور الفيضان فى عهده، ولماذا نكثر القول إذا تذكرنا أن واحة الفرافرة، وهى أصغر واحات مصر، كانت سلة غذاء الإمبراطورية الرومانية.
وإلى ذلك، فإن مدينة البجوات تقع على بعد 2 كم من معبد هيبس، والمصريون القدماء لم يكونوا يقيمون المعابد فى أماكن لا يصلها الإنسان إلا نادرا، بل كانوا يقيمونها فى أماكن تضج بالحياة، لتشهد على حياتهم الدنيوية والدينية، كما أن معبد هيبس ذاته، يتميز بميزة ينفرد بها عن كل المعابد القديمة، ذلك أن معبد هيبس، كما تصفه المراجع:"يمثل العصور التاريخية المختلفة الفرعونية والفارسية والبطلمية والرومانية، كما أنه يعتبر من أهم المعابد المصرية، حيث إنه المعبد المصرى الوحيد المتبقى من العصر الصاوى الفارسى، وشيد لعبادة الثالوث المقدس (آمون - موت - خونسو)"لاحظ فكرة الثالوث.
إذن، فالمعبد نال اهتمام الجميع رسميا وشعبيا، وفى كل العصور المختلفة، أى إنه كان يضج بالحياة على مدى مئات بل آلاف السنين، فكيف يقال إن المدينة المجاورة للمعبد، كانت بعيدة عن السلطة المركزية.
بل إن هناك معابد أخرى، تجاور أو تحيط بمدينة البكوات، وبغض النظر عن قرب أو بعد المسافة، فإن وجود المعابد بالجوار، يشى بأن المنطقة كلها، كانت مكان حياة يومية، وليس مكان مزارات موسمية بحسب دلالاتها الدينية، بل إنا نجد فى تلك المعابد والمشاهد، ما يدل على الأهمية العسكرية والاقتصادية والتجارية، فبالجوار من المدينة، تقع معابد دوش والغويطة والزيان، والناضورة والأهم فى دلالة ما نجتهد فيه، هو معبد الناضورة، وأنقل هنا بالنص متعمدا، التعريف الأثرى والتاريخى المبسط لمعبد الناضورة المجاور لمدينة القبوات:"معبد الناضورة بواحة الخارجة يقع على بعد نحو 2 كم شمال مدينة الخارجة، ويبعد مسافة نحو 1 كم إلى الجنوب الشرقى من معبد هيبس، وقد شيد المعبد على ربوة مرتفعة على سطح الأرض المحيطة.
"وكان المعبد يمثل نقطة التقاء القوافل التجارية التى تمر عن طريق درب الأربعين، بداية من دارفور جنوب السودان حتى أسيوط، كما تم استخدامه كقلعة، ومكان لتحصيل الضرائب ولتمويل وإمداد القوافل التجارية بالمؤن، حيث كانت تمر تلك القوافل بجوار المعبد."
"شيد المعبد فى العصر الرومانى ليكون نقطة مراقبة، وموقعا لحماية الواحة الخارجة قديمًا من الهجمات والغارات، التى كان يقوم بها اللصوص، بين حين وآخر على أهالى الواحات".
كيف إذن تكون المدينة بعيدة عن السلطة الرومانية المركزية، وهى مجاورة لمعبد ذى وظيفة عسكرية كبرى، حتمت وجود حامية رومانية لا تقوم بعمل عسكرى تقليدى فحسب، بل حامية ناشطة، فى وظائف أخرى لا تقل أهمية، كتحصيل الضرائب وضمان استمرار النشاط التجارى، بصفته يقع على درب الأربعين، الذى يعد من أهم الطرق الحية عالميا فى العصور القديمة؟
كيف يمكن القول إن مدينة الخلود كانت بعيدة عن السلطة المركزية، وهى تقع على درب الأربعين، ذلك الدرب الذى يفسر وجود حجاج بيت الله الحرام، الذين وصفوها بالمكان المبارك، المكان الذى جمع بين ديانة آمون ثم اليهودية والمسيحية والإسلام على حائط طينى واحد، أى قداسة حتى للطين فى مصر؟
لكن ما علاقة حجاج بيت الله الحرام، بالمدينة التى شهدت على الإيمان المسيحى المبكر فى مصر؟
لابد أن أذكرك أن المدينة المكونة من 263 كنيسة، وبيتا ومقبرة، بناها المصريون المسيحيون الأوائل من الطوب اللبنى، ولا تزال قائمة حتى الآن، تدل على روعة ومتانة المعمارى المصرى العادى، الذى ورث التشييد عن جده المصرى القديم، فالذين بنوها لم يكونوا فنانين بالوصف الدقيق بل مواطنون عاديون، وقد كان عاديا أن يكون المصرى فنانا ومعماريا، وتدل أيضا على روعة فنية أخاذة لا مثيل لها على هذه الأرض، فأكثرها مزخرف من الخارج وقبابها مزينة بمناظر مختلفة من التوراة، بالإضافة إلى المناظر المسيحية، وهذه المناظر تتميز بألوانها الزاهية المرسومة بطريقة الفريسكو، وهى خلط الألوان بالماء للرسم، وكاتب هذه السطور، زار ورأى تصاوير فنانى عصر النهضة، وما قبله على قباب وجدران الكنائس فى أوروبا، مثل تصوير «مايكل أنجيلو» لقصة سفر التكوين فى العهد القديم، على سقف كنيسة سيستاين، ولوحة يوم القيامة على منبر كنيسة سيستايت فى روما. وما رأيته فى جبانة البجوات، يجعلنى أقول إن هناك عصر نهضة فنيا آخر وأقدم، يجب أن يدرس فى جبانة البجوات.
أهم موجودات المدينة، هى مزار السلام، حيث نرى وجود رمز السلام مصورا بقبة المزار، وهذا المزار هو أكثر المزارات شهرة لدى دارسى الفن، ويطلق عليه الباحثون الأوروبيون اسم "مقبرة البيزنطية"، ومزار الخروج الذى يصور قصة خروج بنى إسرائيل من مصر، إضافة إلى بعض القصص المقتبسة من كتاب العهد القديم مثل قصة نوح، وقصة فداء إسماعيل وما لا يقل أهمية عن ذلك، أنها تسجل وقائع اضطهاد المسيحيين الأوائل، ومعاناتهم فى ظل الاستعمار الرومانى.
هل أصر المصرى المسيحى أن يرسم خروج بنى إسرائيل من مصر، إشارة لما يعرف بأن اليهود تآمروا على دم المسيح، وبشارة وتبشيرا بخروج الرومان، الذين تآمروا على العائلة المقدسة من مصر؟
لكن هناك أيضا المخربشات التى تتمثل فى الكتابات والخطوط، التى سجلها زوار البجوات، ويبلغ مجموعها 63 مخربشة أكثرها مكتوب بالإغريقية 19مخربشة، والقبطية 12مخربشة، وباللغة العربية 29 مخربشة تعود أقدمها للقرن التاسع الميلادى، لكن ما هذه المخربشة، وعلى أى شىء تشى؟
هذه المخربشات التى تسمى أثرا على أثر، يعود أغلبها إلى الحجاج المغاربة الذين كانوا يحجون إلى بيت الله الحرام، فى الحجاز، وعليك أن تتخيل ذلك الحاج المغاربى الذى يدخل المدينة، سيرى تصاوير فنية من الكتب المقدسة، ماذا سيسمى التصاوير الفنية، لن يدور بذهنه أنها حرام، بل، سيدرك قيمة المكان المقدس الذى حل فيه فى طريقه لبيت الله الحرام، وروضة رسوله الكريم، فماذا سيصنع؟ وماذا سيكتب؟
هذا ما كتبه أحد الحجاج المغاربة قبل مئات الأعوام:"حضر إلى هذا المكان المبارك، العبد الفقير إلى الله تعالى، ابن موسى الصيرى، وأخوه نصير، ورفيقهما عبد اللطيف "وتحت هذه الأسماء كتب يقول شعرا:
"يا غافر الذنب ..اغفر ذنب كاتبه
يا قارئ الخط .. قل بالله آمينا
آمينا .. آمينا ..لا أرضى بواحدة
ألا أضف له.. ألف ألف آمينا