.. وبدأ العد التنازلى لأمريكا

15-4-2023 | 08:54

 قلنا وما زلنا نقول.. إن كافة الشواهد تؤكد أننا مقبلون على حقبة زوال أسطورة القطب الأمريكي الأوحد..
 لم نكن نمارس تنجيماً أو تخرصا عندما أكدنا أن الدولار مقبل على انهيار وشيك قبل انهياره عالميا بعام أو أكثر، وأن هذا من شأنه أن يمهد لانهيار كبير للإمبراطورية الأمريكية على كافة المستويات وبخاصة السياسي والاقتصادى والعسكرى.. وإليك الأدلة..
 
المجتمع الدولى وشجرة اللبلاب
 
المؤسسات الدولية التى مارست مهامها فى أعقاب الحرب العالمية الثانية استطاعت أن ترسخ مفهوماً لدى غالبية الدول أنها الملاذ الوحيد إذا شاءت أن تحل قضاياها. 

لقد تحول المجتمع الدولى عبر عقود إلى شجرة عميقة الجذور ثابتة الجذع كريهة الثمار..
 ثم جاء وباء كورونا ليجتاح أوروبا وأمريكا والدول الغنية الكبرى لتكتشف معظم دول الغرب أن المجتمع الدولى ليس إلا مسخة وأكذوبة كبرى ليس بإمكانها شيء، وحينها كان ملجؤها الوحيد امدادات الصين التى لو توقفت لصارت أوروبا كلها فى مأزق! فى تلك الآونة ارتفعت صيحات قادة وشعوب أوروبا تستنكر عجز المؤسسات الدولية عن ممارسة دورها فى حل الأزمات.
 
تلك كانت بداية التشرذم وظهور أولى بوادر انعدام الثقة فى كافة المؤسسات الأممية، وعلى رأسها منظمة الأمم المتحدة، وفى ذيلها منظمة الصحة العالمية وصندوق النقد، إنها اللحظات التى بدأت معها سيقان اللبلاب تلتف حول الشجرة الأممية الراسخة لتخنقها.
 
ثم جاءت الحرب الأوكرانية الروسية الكاشفة للمهزلة.. وهنا انبرى الغرب يفرض عقوبات اقتصادية غير مجدية ضد روسيا، وتحولت المؤسسات الدولية إلى ألعوبة تخدم هدفاً واحداً لا غير، وهو ردع روسيا والصين لصالح الغرب. 

ثم جاءت المحكمة الدولية لتزيد الطين بلة فتطالب بسرعة القبض على بوتين وإحضاره لمحاكمته كمجرم حرب!! هكذا أصبحت المؤسسات الدولية فى مرمى النيران. وسرعان ما أعلنت روسيا بالاشتراك مع الصين عن نبذ النظام العالمى القديم وقيام نظام جديد، وسرعان ما ارتقت اللبلابة إلى عنان السماء..
 
تفكك التحالفات.. وتحالف المنقسمين!
 
كثيرون قرأوا من مشهد انضمام فنلندا غير المنحازة لحلف الناتو دعماً للحلف واصطفافاً وتوحداً فى مقابل التهديدات المشتركة، وأن هذا معناه أن الاتحاد الأوروبى يتضخم ويقوى، لكن علينا ألا نقرأ المشهد بعيداً عن زيارة الرئيس الفرنسي الأخيرة للصين والتى عاد منها بغير الوجه الذى ذهب به، ودعا حلفاء فرنسا للتخلص من عبء الاعتماد على أمريكا التى تأخذ أكثر مما تعطى، وتورط أكثر مما تدعم!
 
حقيقة المشهد أن الناتو يحاول الاحتماء بأكبر قدر من الجيوش الأوروبية احتماء الخائف، إنها حالة دفاع وجودية لقارة تتهددها الأخطار المصيرية. بينما واقع الحال يقول إن هناك انقساماً فعلياً بين الحلفاء تجاه الحرب وأطرافها، بعضهم يري أن التحالف مع الصين وروسيا هو الأقل ضرراً والأكثر نفعاً لأوروبا. 

وبعضهم الآخر يريى بعيون أمريكية..

المؤكد هنا أن كثيرين من حلفاء أمريكا لم تعد لديهم نفس الثقة أنها قادرة على دعمهم، أو أنها ترغب فى ذلك؛ أى أن المؤكد أننا نشهد حالة من تفكك التحالفات الأمريكية تجرى على قدم وساق، وأول هؤلاء الحلفاء المنقسمين هم دول الناتو ذاته!
 
على الناحية الأخرى شهدت المنظمات الشرقية تنامياً فى أحلافها.. من منظمة شانغهاى إلى البريكس التى استقطبت بعضاً من أحلاف الغرب القدامَى، واليوم نرى كيف أن السعودية ذاتها تتجه صوب هذا التحالف الواعد قليل التكلفة. 

إنها خارطة اقتصادية جديدة تتفكك فيها أجزاء ليعاد تركيبها فى مناطق أخرى لنكتشف بعد برهة أن الكتلة الشرقية تمددت على حساب الكتلة الغربية التى تتمزق إلى شراذم.
 
البتروروبل والبتروريـال!
 
التسارع الهائل فى نمو الاقتصاد الأمريكي لم يحدث إلا فى أعقاب حرب أكتوبر؛ عندما تم ربط النفط بالدولار فيما عرف بالبترودولار. أى أن خيرات أمريكا هى من أكتاف السعودية وقرارات الأوبك؛ تلك القرارات التى ظلت فى قبضة أمريكا طويلاً قبل أن تتراخى هذه القبضة قليلاً لتسمح بشيء من التحرر أثناء بدايات حرب روسيا أوكرانيا. 

فماذا سيحدث بعد أن طارت الدعوة من روسيا للتعامل بالروبل مقابل النفط؟ وكيف إذا اتسعت رقعة المستجيبين لتلك الدعوة؟

ما الذى حدث للعالم؟ أو قل ما الذى حدث لأمريكا؟ كيف صارت مثل تلك الدعاوى تزداد وتلقى إعجابا متنامياً دون أن يكون لها القدرة على إبداء أى رد فعل؟! الحق أن "وثائق البنتاجون" الأخيرة فيها إجابة عن كثير من مثل تلك التساؤلات.. وهى الحلقة الأحدث من سلسلة تسريبات استخبارية بدأت منذ عام 1971 بتسريبات المحلل العسكرى دانيال إلسبيرغ حول حرب فيتنام. تلاها فى مطلع الألفية ما حدث من القبض على جاسوس موسكو الشهير روبرت هانسن الذى ظل على مدار 25 عاماً يسرب آلاف الوثائق من موقع عمله فى مكتب التحقيقات الفيدرالى!
 
عام 2010 شهد مولد موقع ويكليكس الأشهر فى مجال التسريبات، والذى نشر عددًا هائلا من الوثائق العسكرية حول الحرب على العراق وما بعدها خلال الفترة ما بين عامى 2004 و2009.

 عام 2013 جاء ومعه تسريبات جديدة كان بطلها هذه المرة عميل المخابرات الأمريكية روبرت سنودن الذى كشف قيام الحكومة الأمريكية بمراقبة ملايين الأمريكيين من خلال برنامج أطلقته عبر الشبكة العنكبوتية فى أعقاب هجمات سبتمبر 2001. 

أما التسريب الأخير والأخطر ذلك الذى كشف عنه منذ أيام مضت حول الحرب الروسية الأوكرانية فإنه يعد أحد أكبر الخروقات الاستخباراتية من ناحية؛ لأنه يمس هذه المرة حرباً قائمة لا حرباً منتهية كما كان فى السابق، والأخطر أن هذه الوثائق بها ما أكد تجسس أمريكا على حلفائها من دول الناتو.. 

فإذا صحت تلك الوثائق فإنها تزيد من اتساع الشرخ الحادث فى خارطة التحالفات الأمريكية..
 
أصحاب الرهان الخاسر..
 
ليس من السهل التخلى عن الثوابت.. وأمريكا لها أحبابها وأنصارها الذين لا يطيقون مجرد التفكير فى أن أمريكا النرجسية لا تفكر فيهم إلا كأتباع رهن إشارتها، وأن سقوط هيبة أمريكا فى نظرهم لا يحررهم من التبعية لها بقدر ما يفقدهم مزايا التبعية للقوة الأكبر فى عيونهم..
 
المنكرون لما يحدث فى العالم من تغيرات دراماتيكية إنما يضعون على أعينهم غشاوة بإرادتهم؛ إنهم لا يريدون أن يبصروا الحقيقة الدامغة بأن أمريكا متجهة إلى منحدر طويل وربما إلى هاوية سحيقة، وأن مصادر القوة التى كانت بالأمس فى قبضة أمريكا ما تزال تنفلت من يدها وتنفرط تباعاً.
 
فى نظرى أن أصحاب الدعوات للاتجاه شرقاً أو غرباً هم جميعاً من ذوى الرهان الخاسر.. فالعالم اليوم يتجه لحالة من السيولة واللانظام؛ لأن انهيار النظام العالمى القديم لن يتبعه نظام جديد بل ستتبعه فوضى.. 

حينئذ لن يقف فى مواجهة أعاصير التغيير سوى من أدرك أن الطريق الوحيد للثبات أمامها هو الاعتماد على قوته الذاتية لا قوته المستمدة من اليمين أو اليسار.. وإذا كان علينا أن نختار أن ننحاز لإحدى التكتلات الناشئة، فهل من العقل أن ننحاز لقوة تتفكك وتنهار؟!
 
عالم ما بعد أمريكا!
 
حاول أن تبحر بخيالك لتتصور عالماً قادماً بدون أمريكا، هل يتجه إلى ما هو أفضل؟
تصور أن يأتى اليوم الذى تنفصل فيه الولايات المتحدة الأمريكية إلى عشرين أو ثلاثين دولة أو ربما أكثر. وأن الذين يتقاسمون هذه الكعكة الدسمة هم أحلافها القدامَى أنفسهم؛ لأنهم الأحق بالإرث.. قد تتساءل فى استغراب: وكيف يمكن أن تنهار أمريكا أقوى دولة فى العالم؟ هذا سؤال لطالما أفردت له مقالات طويلة سابقة .. إن أمريكا تتآكل من داخلها.. إن جرثومة أمريكا الفتاكة ولدت معها .. وارجعوا إلى مقالاتى واقرأوها لتعرفوا أن مثل تلك التبوءات ليست مفرطة فى الخيال؛ بل هى منطقية للغاية.
 
[email protected]

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة