الأماكن، والشخصيات، والأيام أقدار.
بعض الأماكن مكتوب على ترابها أن تشهد أحداثًا كبرى تغير مجرى التاريخ، وبعض الشخصيات مكتوب على جبينها أن تواجه المصير بمفردها، وبعض الأيام تتكرر وكأنها مصادفة.
ومنطقة مانهاتن المطلة على مصب نهر هدسون بمدينة نيويورك الأمريكية من هذه الأماكن، فقد شهدت أكبر حادث تراجيدي في القرن الحادى والعشرين، ففى 11 سبتمبر 2001، تعرض برجا التجارة العالميان لهجوم طائرات مدنية، فانهار البرجان على الفور، وذهبت آلاف الأرواح إلى خالقها فى لمح البصر، ولا يزال الحادث غامضًا، والعهدة على رواية المفكر الفرنسي تييري ميسان.
وها هي مانهاتن تشهد الثلاثاء الأخير لنهاية فكرة براقة، استمرت قرنين ونصف القرن، منذ الرئيس الأول جورج واشنطن إلى الرئيس السادس والأربعين جو بايدن، تلك الفكرة المقدسة تؤمن بأن موقع الرئيس الأمريكي، أى رئيس، يحظى بمكانة مرموقة أثناء خدمته، ثم بعد أن يذهب إلى المنزل، فيعيش آمنًا مكرمًا معززًا، كاتبًا للمذكرات، والأبحاث، وناشطًا فى مراكز الأبحاث المتعددة.
كانت فكرة أمريكية للتصدير الدائم، والاستنساخ العالمي المستمر، لكنها تتكسر الآن على شواطئ مانهاتن.
شاءت مانهاتن أن يتغير منها التاريخ مرتين فى عقدين، الأولى فى 11 سبتمبر 2001 ، والثانية فى محاكمة الرئيس الـ 45 دونالد ترامب.
والشخصيات أقدار أيضًا، ودونالد ترامب، القادم من الشوارع الخلفية، من دماء ألمانية - أسكتلندية، لم يذهب إلى أى معركة فى تاريخ الولايات المتحدة المتخم بالمعارك، فجاءت إليه المعارك زاحفة.
كان ترامب قد ظهر على المسرح السياسي، ليتحول ظهوره إلى نهاية لمسيرة طويلة من سلسلة الرؤساء القادمين من دهاليز السياسة، ويتخذ من الرئيس الخامس جيمس مونرو، صاحب مبدأ مونرو، والرئيس السابع أندرو جاكسون، قناعين ليواجه بهما مؤسسة الآباء المؤسسين، ويكسر حلقة النار فى المؤسسة الأمريكية.
شاء القدر أن يصبح ترامب أول رئيس أمريكى يحاكم بتهم جنائية، يصل عددها إلى 30 تهمة، وكان قد تعرض للعزل مرتين أمام الكونجرس، وكذلك فى اقتحام مبنى الكابيتول فى السادس من يناير 2021، ونجا من العزل والمحاكمة، وقرر الترشح عن الحزب الجمهورى فى انتخابات 2024 الرئاسية، ويبدو أنه سيحظى بالأغلبية فى أى انتخابات، لكن خصومه، وهم موزعون فى الداخل، والخارج الأمريكي، قرروا أن يكون العشاء الأخير فى مانهاتن.
والأيام مصادفة، كانت أحداث 11 سبتمبر 2001 يوم ثلاثاء، والآن محاكمة ترامب يوم ثلاثاء أيضًا، كان الثلاثاء الأول أسود على العالم، فجورج بوش الابن أطلق جيش الرب على العالم تحت ساتر الحرب على الإرهاب، وغزا أفغانستان والعراق، ومهد الجسور إلى فوضى الربيع العربي في الشرق الأوسط، فماذا سيفعل ثلاثاء ترامب الأخير في مانهاتن؟
أرض الأحلام تتحول إلى أرض الكوابيس، جاء جداه البعيدان من ألمانيا فى القرن التاسع عشر، وحظى بالفرص فى أرض الأحلام، أرض دعه يعمل دعه يمر، وقد عبر ترامب عن تلك اللحظة حين وصف محاكمته بالسريالية.
بالفعل هى لحظة سريالية، فالمنتصر فى معركة يوم الثلاثاء الأخير، سيصبح مهزومًا في الأربعاء التالي.