واضعا أمام عينيه كاريزما وشخصية الزعيم الفرنسي الراحل شارل ديجول القوية، طالب الرئيس إيمانويل ماكرون، أوروبا بكسر طوق الهيمنة الأمريكية على القارة العجوز، ودعاها بإلحاح لتنفيذ ثلاث خطوات يراها البداية الصحيحة والجوهرية لاستعادة الأوروبيين استقلالية قرارهم السياسي بمنأى عن رؤية وخطط واشنطن، ونهج التبعية الذي تفرضه عليهم، وتعبيد الطريق لبناء شراكة إستراتيجية متوازنة ومتكافئة بين الطرفين.
نصائح، أو وصايا ماكرون الثلاثة لجيرانه الأوروبيين تمحورت حول تقليل اعتمادهم على الدولار الأمريكي خارج الحدود الإقليمية، وثانيها تجنب الانجرار إلى المواجهة المحتملة بين أمريكا والصين بشأن تايوان، وثالثها تعزيز الصناعات الدفاعية الأوروبية، فالرجل يوجه دعوة صريحة ومباشرة للتمرد على "العم سام"، معتبرًا، وفقًا لحساباته، أن الوقت والظروف مهيأة وسانحة للقفز من المركب الأمريكي المائل.
فما الذى يسعى إليه ماكرون من رفعه لواء التمرد على "بيت الطاعة" الأمريكي، وهل يمكن أن يكون النجاح حليفًا له في مشروعه الثوري هذا، أم أنها لحظة حماس وانفعال عابرة سرعان ما تتلاشى ويعود كل شيء لأصله ويبقى الوضع على ما هو عليه؟
حتى نقرأ ونفهم ما يدور في عقل الرئيس الفرنسي علينا أولا النظر بإمعان وتقييم الأوضاع الداخلية ببلاده، وهى ليست جيدة ولا تبعث على ارتياحه السياسي والأمني، بسبب الاحتقانات المتزايدة، جراء سياساته وقراراته غير الشعبية، ومعاناة المواطنين من معدلات تضخم وفقر متصاعدة، حيث تعم المظاهرات والإضرابات أرجاء فرنسا بلا توقف، ويصاحبها عمليات عنف وتخريب، وشعبيته بين أوساط الجماهير متدنية.
إذن فهو في أمس الاحتياج لتحسين وضعه الداخلي شديد التأزم، ويضغط عليه سياسيًا بحدة، ويحاول إنجاز ذلك عبر خبطات واختراقات يُشار إليها بالبنان على الصعيد الخارجي، مثل طرح نفسه كقائد طليعي له نظرة ثاقبة للقارة الأوروبية المفتقدة لزعامة تأخذ بيدها للأمام وترشدها للسبيل الأمثل والأوفق لمستقبلها سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا، وينعش ذاكرة الأوروبيين بمآثر ديجول في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، حينما ناكف وتحدى الولايات المتحدة كثيرًا آنذاك، وأعلن انسحاب فرنسا من حلف شمال الأطلنطي " الناتو" بقيادة أمريكا.
وللإنصاف فإن جانبًا من تحرك ماكرون بهذا الصدد مرتبط برغبته في إفساح مكان متقدم لفرنسا بالعالم الجديد الذي يتشكل بتعددية قطبية، ووسيلته قيادته لأوروبا التي تئن من وطأة متاعبها الاقتصادية والمالية، ولديه تصور بأنه إذا اقتنعت البلدان الأوروبية بجدوى الخروج من العباءة الأمريكية التي يدعو إليها ويشدد عليها فإنها ستصبح ثالث أكبر قوة عالمية في النظام الدولي الجاري تأسيسه، ليس هذا فحسب، بل إنه يعتقد جازمًا بأن التوجه نحو آسيا والانفتاح على الصين على وجه الخصوص هو الخيار المضمون لتلبية مطلبين حيويين لا غنى عنهما.
المطلب الأول التحرر من قيد الهيمنة الأمريكية الملفوف حول رقبة أوروبا ويكاد يخنقها، والثاني إيجاد مخرج يساعدها في التغلب على همومها ومتاعبها الاقتصادية والمالية التي زادت من حدتها الآثار التابعة لاندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، ولا يخفى كثير من المسئولين الأوروبيين أن أمريكا زجت بهم في أتون هذه الحرب التي يعتبرونها في الأساس معركة أمريكية ضد روسيا انطلاقا من الأراضى الأوكرانية، فهم لا ناقة ولا جمل لهم فيها، ويتهمون واشنطن بأنها تتعمد التأثير على اقتصاد أوروبا بإلزامها على غير رغبتها بسلسلة العقوبات المفروضة على موسكو.
ولوحظ أن القارة العجوز لم تأبه مؤخرًا للخطاب الأمريكي المناهض للصين، حيث هرولت ناحيتها بشكل لافت، وحينما زارها ماكرون قبل أيام رافقته رئيسة المفوضية الأوروبية، وتمردها على اللاءات والتحفظات الأمريكية يرجع لقراءة واقعية لأحوالها ومصالحها الاقتصادية.
فأوروبا تحتاج للصين اقتصاديًا وماليًا، حيث ارتفع حجم التبادل التجاري الصيني الأوروبي العام الماضي بنسبة ٢٣٪ ليصل إلى ٩١٢ مليار دولار، فبكين أكبر مورد للاتحاد الأوروبي، وثالث أكبر مشتر لمنتجات دول الاتحاد في ٢٠٢٢، وفرنسا تعد أكبر شريك تجاري للتنين الصيني أوروبيًا، فالصادرات الصينية لباريس بلغت ٤٥ مليار دولار، والفرنسية ٣٥ مليار دولار، ومن ثم لن تضحى أوروبا بكل هذا خضوعًا لسياسة واشنطن بمحاصرة الصين اقتصاديًا لموقفها الداعم لروسيا في الحرب ضد أوكرانيا.
وواضح أن ماكرون في دعوته يدرك الرفض الأوروبي المتزايد للتماهي مع السياسات الأمريكية على وجه العموم، حفاظا على مصالحها، لأن هذا التماهي يلحق بها خسائر فادحة ليست مستعدة لتحملها لا الآن ولا مستقبلا، لكن في الوقت نفسه فإنها لا تسعى للانفصال الكامل عن العم سام أيضًا للمحافظة على مصالحها، فالولايات المتحدة المورد الرئيسي حاليًا للغاز المسال لأوروبا، ومعلوم حساسية وحيوية ملف الطاقة في الظروف الراهنة، بالإضافة إلى الجوانب العسكرية المتصلة بالقوات الأمريكية المنتشرة بقواعد أوروبية، وصفقات السلاح، والتعاون العلمي والتكنولوجي.
نخلص إلى أن دعوة ماكرون دوافعها الأساسية داخلية، غير أنها تصادف هوى في نفوس الأوروبيين الطامحين لتدشين شراكة إستراتيجية متوازنة مع الولايات المتحدة تبقى علاقات الجانبين في خانة الندية وليس طرفًا يتسيد على الآخر، وأنه حان أوان تبديل الثوب القديم للعلاقة المنسوج بمواد ومعطيات طرأت عليها تغييرات كثيرة لابد من وضعها في الحسبان، فإلى أي مدى سيصل التمرد الأوروبي على الهيمنة الأمريكية، وكيف ستواجهه الإدارة الأمريكية المتخبطة، ذاك ما سنتابعه عن كثب خلال الفترة القادمة.