خارطة العالم يعاد رسمها من جديد..
هذا ما يلمسه الكافة على كل الأصعدة.. قبل جائحة كورونا اعتبر الناس أن بقاء الولايات المتحدة الأمريكية على رأس الكوكب أمر مفروغ منه، وكذلك اعتبرت أمريكا نفسها وما زالت ترى أنها السيد المطاع فى عالم من الأتباع والحلفاء والخاضعين. والخارجون عليها إما معاقَبون أو مستبعدون أو أعداء. فهل ما زالت الإمبراطورية الأمريكية ترى نفسها اليوم كذلك؟ أو هل يراها الناس كما كانت؟!
أترك الإجابة على السؤال لذكاء قادة وخبراء لم تعد تخفى عليهم الحقائق فى عالم ضاقت فيه المسافات واتسعت المعارف إلى أبعد حد. ثم أنتقل لمشاهد ما بعد كورونا.. طالبان تستولى على أسلحة أمريكية بالمليارات، بينما تخرج أمريكا من أزمة كورونا بالكاد لتجد نفسها أمام أعاصير وجفاف وزلازل وكوارث طبيعية استنزفت خزائنها، ثم حرب روسية أوكرانية سلبت ما تبقى فى جعبتها من احتياطى نفطى ونقدى، ثم جاءت أزمتها المالية بعد متواليات من رفع الفائدة على الدولار انهارت على إثرها أكبر البنوك لا فى أمريكا وحدها بل وأوروبا!
القارة الأوروبية لم تسلم من تلك التغيرات الدرامية فى الأحوال بل ربما نالت نصيب الأسد.. أكبر دول أوروبا تعانى الآن اقتصادياً وسياسياً بل وعسكرياً بفضل الحرب الأوكرانية والمواجهات الدامية للناتو دون طائل.
وقبل ذلك عانت أوروبا صيفاً قائظاً جفت فيه الأنهار واختلت موازين الحالة المناخية واستمر نزيف الخسائر الاقتصادية الأوروبية من كورونا إلى الكوارث الطبيعية إلى الحرب.
هكذا وجدت بعض الدول الإفريقية الفرصة سانحة لتخرج نفسها من دائرة الهيمنة الغربية وتحدى بعض زعمائها ماكرون زعيم فرنسا أو طردوا قواته ليعلن الأخير أن إفريقيا تخلت عن فرنسا ربما للأبد.
العالم الجديد ليس هو ما بشر به أنصار القوى الغربية أنه عالم الصقور والأسود والضوارى، بل هو عالم آخر تصعد فيه قوى كانت بالأمس رهن الاحتلال كالصين مثلاً.. إنها الفرصة السانحة لمن يقتنصها والمتنفس الحقيقي لمن يستطيع أن يقرأ المشهد بشيء من الاستشراف والاستباق لأحداث كبري متوقعة وخارطة عالمية جديدة تتشكل.. ترى ما هو موقع مصر منها؟
بلد أمين.. ودرعها الحصين
البلد الذى شهد أقدم مظاهر التوحيد، وباركته خطوات أولى العزم من الرسل موسى وعيسي وإبراهيم الخليل، وبات شعبه من أصهار خير خلق الله بفضل زواج أم المؤمنين ماريا القبطية هدية المقوقس.. هذا البلد الذى تعاقبت عليه عهود رخاء وسنوات عجاف وخُلد ذكره القرآن لم يزل بفضل الرحمن بلد الخير والنماء والسلام.
كل مصري يفتخر بانتمائه لهذا البلد الطيب الحبيب، وكلهم يتمنى أن يري مصر فى مقدمة الأمم.. غير أن نيل المطالب لا يأتى بالتمنى، لاسيما ونحن فى منعطف حاد حافل بالتغيرات الجذرية المصيرية من حولنا.. حتى أن مؤتمر ميونخ للأمن عام 2023 لم يكن كسائر المؤتمرات التى سبقته.. هناك أسلحة تتناوبها الأيدى على اختلاف أهدافها، ميليشيات ومنظمات ومرتزقة يؤججون الصراعات هنا وهناك، وتجار السلاح حول العالم أقاموا صروح مجدهم الدموى على تلال من الجماجم. هكذا تصاعدت حدة الصراع بين الدول الكبري وامتد اللهيب والضرر إلى الجميع ..اختفى القمح وشح النفط وارتفع الدولار وانتشرت الجريمة وانفتحت أبواب الهجرة غير الشرعية على مصراعيها وغدت كل الدول أسيرة لمشاكل وأزمات تتفاقم وتزداد باستمرار..
الوضع الإقليمى يشهد بدوره تغيرات محورية كان آخرها الاتفاق السعوديي الإيراني برعاية صينية. تلك الاتفاقية التى لابد أن لها ما بعدها، وهى مؤشر لتحولات ضخمة حدثت قبلها.. هناك تحالفات تفككت ولاشك أنها تلد تحالفات جديدة تتغير على إثرها خريطة المنطقة.. وهو ما يستلزم بالضرورة رؤية ثاقبة لما هو قادم والاستعداد للمتغيرات..
كتفاً بكتف
مصر فى عهود قديمة كانت تسير كتفاً بكتف على خطى الصين وسائر الحضارات الكبري. بل قل إن الحضارات الأخرى هى التى كانت تسير على خطى مصر؛ هكذا كان دورها على مر العصور.. دور قيادى لا تطلبه ولا تلتمسه بل هو وضعها الطبيعي لأسباب جغرافية وتاريخية وحضارية لم تتكلفها مصر أو تستجديها..
وكان من أهم ما تميزت به مصر فى عهود القوة أحلافها من حولها فى الإقليم وخارجه. فإذا خرجت مصر من معادلة الأحلاف كان المتضرر الأكبر هو من أخرجها من تلك الدائرة لا مصر.. بلادنا لم تدخر جهداً لدعم جيرانها وأشقائها كلما وجدت فرصة للدعم والمؤازرة، وفى نفس الوقت هى ذاتها تتقوى بتلك الأيدى التى تمتد للتعاون والمؤازرة والدعم.
نحن لسنا فى عالم مثالى، والعالم العربي نالته الأيدى العابثة فمزقته وعمدت إلى تفريقه وتفتيته لإضعافه وإرغامه على استجداء القوة من الغرب أو الشرق. ومن الحكمة إن لم يكن من الضرورة أن نجابه مكائد الفرقة والتشرذم بمزيد من التآلف والتكاتف كأشقاء فى إقليم واحد له نفس الهموم وذات الأهداف..
رؤية مصرية مصيرية
آن الأوان ليكون لمصر رؤية خاصة فى عالم مضطرب احتدمت فيه الصراعات وازدادت التهديدات وتفاقمت الأزمات وتغيرت خارطة التحالفات. وباتت لغة المصالح هى اللغة العالمية الأولى، ولم يعد أحد يبكى إلا على ليلاه..
ليس كافياً أن نسير سيراً حثيثا بطيئاً نحو تنمية تقابلها عراقيل اقتصادية تأتى من حرب أوكرانية تشتعل بعيداً عنا فنتأثر بشظاياها، أو من بنوك تنهار فى أوروبا وأمريكا ونكون من بين ضحاياها.. لا يمكن أن نتصور أن تصبح مصر ريشة فى مهب رياح عاتية تهب على غيرنا!
لهذا أقول إننا بحاجة ماسة لوضع إستراتيجية وطنية شاملة من أجل تعزيز قدرات الدولة المصرية في ضوء التغيرات الدولية والإقليمية تبني على المواءمة بين المصالح والأهداف القومية.. تلك الإستراتيجية لا تقتصر على جانب واحد من جوانب التطوير بل تسير فى خطوط متوازية وبخطوات متسارعة لتحقيق طفرات وقفزات تنموية على المدى القريب..
سياستنا الخارجية قد تتغير وترتدى ثوبا يلائم ما يحدث من تطورات.. سياستنا الاقتصادية قد تتطور وتزداد مرونة وقدرة على التكيف مع الأزمات وتجاوزها.. إعلامنا لابد له من تغيير يرتقى به إلى مستوى عالمى يستحقه إذا أجاد استغلال أدواته.. صناعتنا لابد لها أن تساير عصراً يوصف بأنه عصر التكنولوجيا والتقنيات والذكاء الاصطناعى والروبوت.. ولعل أهم ما ينبغى لنا أن نحافظ على التفوق فيه هو سباق التسليح الذى صار اليوم هو أهم السباقات المصيرية للحفاظ على الأمن القومى لأى بلد.
لسنا بعيدين عن تحقيق نهضة شاملة حققنا مثلها فى السابق ونستطيع تحقيقها اليوم.. وحولنا نماذج عدة لطفرات اقتصادية وقفزات تنموية حققتها دول أقل من مصر كثيراً فى شتى النواحى.. فقط علينا أن نبدأ ونشرع فى رسم تلك الإستراتيجية الوطنية التى يشارك كل الشعب فى تحقيق مقتضاها والسير على هداها حتى نصل لتحقيق الغاية.
مصر قادرة على تحقيق المستحيل .. التاريخ يؤكد هذا، والتاريخ من شأنه أن يكرر نفسه..
[email protected]