شهر رمضان له نكهة وسعادة خاصة لا يعرف سرها إلا الله، وهي تنقدح في قلب المسلم وغير المسلم، والليلة الأولى منه تعد من أسعد الليالي، وقد حكى أحمد بهجت عن تجربته معها بقلمه الرشيق قائلاً: "أشعر في الليلة الأولى وكأنني أرى من خلال نفسي كل نفوس الآخرين في الوجود، وينمو داخلي الحنين فأود أن أعثر على النملة التي كلمت سيدنا سليمان لأقبلها، وأتمنى أن ألقى الحوت الذي ابتلع يونس لأربت على رأسه، وأحلم أن أجد الحمار الذي بعث أمام عزير لأحمله على ظهري، وأفكر عبثاً في قبر الهدهد الذي حمل الرسالة لبلقيس وعاد ليحكي لسيدنا سليمان عن عبادتها للشمس، أين يقع قبر هذا الهدهد؟! أي روعة أن يُبعث الهدهد ليتحدث قليلاً عن عبادة الشمس".
وهكذا تتوحد مشاعر أحمد بهجت في بداية شهر رمضان مع تاريخ الأنبياء العظام وأصحابهم ومن عاش معهم حتى لو كانوا من الحيوانات والطيور، فهو يرغب أن يرى نملة وهدهد سليمان وحوت يونس وحمار العزير والتوحد مع الكون كله.
بل إنه يشعر مع أول يوم في الشهر الفضيل بالحب للخلائق جميعًا، ويعبر عن ذلك بقلمه الرائع:"في بدايات شهر رمضان أحس نحو كل الكائنات بالحب وأشعر بالرفق والضعف إزاء قصص الحب الإنسانية والحيوانية والنباتية والجمادية، ويملؤني إدراك للعلاقة بين تنهد القمر ومد البحر وجزره، كما أفهم سر الهوى المتبادل بين زهرة عباد الشمس التي تحول وجهها نحو أمها حتى يجيء الليل فتنكسر عنقها وتنام، وأشعر في هذا الشهر بأن كل شيء في الدنيا يقوم على الحب، إنه الناموس المسيطر الحاكم في الدنيا، وإن أفسده الناس بالكراهية والرحيل" .
هذه المشاعر الرائعة التي تموج بقلب ونفس أحمد بهجت وقلوب المؤمنين الصادقين تتحطم علي صخرة الواقع المادي الأليم، وطلبات الشهر المادية فيستيقظ بهجت وأمثاله من حلم محبته الجارف على أصوات زوجته وهي تمارس قيادة المطبخ ليعود للواقع الأليم.
يقول في ألم: "عدت بعد السحور غير قادر على أن أحس بالحب والهوى، وانطفأ داخلي هذا الوهج الذي انبعث للحظات ولم يعد هناك شيء يشغلني غير هذا الثقل الكائن في معدتي".
كلنا ذلك الرجل يا أستاذنا الراحل، وكلنا يسأل نفسه: "سألت نفسي كمصري: لماذا آكل إذا جلست للطعام كمن يأكل في آخر زاده؟ هل هو جوع القرون الأولى من حياة المصريين".
يعجب المرحوم بهجت من صديقه الذي يقول له: "تعال إلى الجامع نخطف ركعتين"، فيقول له: تخطف ركعتين لله، يرتكب الناس ذنوبهم بإتقانٍ وتأنٍ ورسم سابق وخطط محكمة وإعداد قديم، فإذا تعلق الأمر بالخالق خطفنا له ركعتين.
ويتحدث عن قضية السرحان في الصلاة: "ذهب يصلي فسرح في صلاته فكر في زميله البليد الذي صار وكيلاً للوزارة، سمع الله لمن حمده، سمع كلاكس السيارة وتحسر أنه لم يشتر السيارة بعد، التحيات لله والصلوات لله، نسي أن يحضر لزوجته لفة قمر الدين، لعبت المشاكل بعقله وهو يصلي، بعد السلام تذكر كل شيء نسيه في الصلاة " .
تحدث بهجت عن فلسفة المصريين في قمر الدين، تعجب من ذلك قائلاً: صعد الإنسان إلي القمر ونزلنا نحن لقمر الدين".
وتحدث عن القطايف والكنافة قائلاً: دخلت الكنافة والقطايف تاريخ المسلمين حينما خرج الحب من القلوب، وصار الإسلام سبحة معطلة، وفانوساً أثرياً، وكلمات تتمتم بها الشفاة وتنقطع صلتها بالإرادة الحية".
ويعجب بهجت لإصرار أمه وزوجته على إحضار قمر الدين بأي طريقة فيقول: "يسير أبناء الفرنجة فوق القمر وأبحث أنا طول النهار عن قمر الدين فما أعظم الفرق بين الحضارتين".
ويتعجب من طلب أمه أن يتصل بالصحف ليكتبوا عن القطايف التي صغر حجمها والكنافة المغشوشة.
ويتحدث عن اللحظات العصيبة للصائم قبل انطلاق المدفع بقليل، لحظات شدة الجوع وانتظار الفرج "أكبر أبنائي ينظر في ساعة الحائط يكاد يدفع بنظراته عقارب الساعة".
رحم الله صوفي الصحافة المصرية العظيم، وفارس القلم الذي لم يتلوث بالشهوات أو الشبهات "أحمد بهجت" الذي بارك الله في قلمه وكلماته ومشاعره فوصلت إلي أجيالنا وعشنا في معانيها السامية.