مسيرة نصف قرن مع سلطان الكلمة

29-3-2023 | 12:22

مغامرة كبرى أن تخوض في عالم الكلمة.. عالم المعاني والدلالات والإيحاءات والرمزيات، عالم الأفق اللانهائي الزاخر بالأفكار والرؤى والتوجهات، فما إن تهدأ وترسو وتستقر حتى يجتذبك شاطئ آخر تحقق فيه ذاتك الطموحة، لحظتها تستشعر أنك قد صرت ملكًا، لكن ظرفيات المغامرة تطرح عليك مبدأ قاسيًا هو أنه في ساحة العقل لا يوجد أنبياء.

لكن ذلك عند عشاق الكلمة والفكرة لا يمثل غير دافع فريد للانطلاق، وليس دعوة للحذر والإحباط والتقوقع، فما منشأ وما من ضرورة تحتم عليك أن تمنحها عمرك غير الكلمة، فجمهورية الكلمات لها سادة ونبلاء أدركوا شعابها ومناحيها وامتلكوا آلية التعاطي معها حتى صارت لهم اليد الطولى في الوقوف على أسرارها.

ولعل كتاب (أسرار 50 سنة صحافة) قد سجل لصاحبه الكاتب الساخر "محسن حسنين" بطولة خاصة في جولاته ومعاركه مع الكلمة مدحًا وقدحًا حتى إنها قد صارت لديه أداة فاعلة في النقد السياسي والاجتماعي والثقافي أيضًا، وهو ما يتجلى في استعراضه للعديد من إشكاليات القضايا القومية الكبرى خلال وقفات عابرة لكنها تعرب عن عمق ومغزى يدفع القارئ للإحاطة بمكنوناتها وخوافيها، لأنها تمثل محورًا خاصًا في التاريخ الاقتصادي الحديث؛ ومنها قضية اضطراب العملة المحلية، ومدى ما نالها من التضارب والتخبط، وكذلك قضية تدبير الدولار ومهزلة شركات توظيف الأموال، وما أحدثته من اختلالات في منظومة الاقتصاد المصري، ذلك بجانب خوض المؤلف لمعركة استثنائية هي بيع الأصول الإستراتيجية للدولة، لكن قضية القضايا التي تصدى لها الكاتب الساخر "محسن حسنين" والتي كانت بحق هي معركة وطن يحاول ألد أعدائه من الجبهة الإخوانية استئصال جذوره ومحو ثوابته، وتشويه تاريخه وطمس هويته وإبدال عقيدته أملاً في بلوغ الرضا الأمريكي الذي كان وسيظل يمثل سرابًا سياسيًا يتهالك عليه كل من تخادعه أفكاره أن يكون أحد أباطرة البلاط الأمريكي.

ومن هنا اشتدت معركة القلم وبدأ "محسن حسنين" يشحذ كلماته منطلقًا نحو مواجهة العاصفة الإخوانية والتنديد بالدور الأمريكي الذي يستهدف إثارة القلائل ونشر الفوضى في أرجاء المعمورة والذي تزعمته بجدارة "هيلاري كلينتون" معتمدة إستراتيجية خاصة ترمي إلى إحكام قبضة الجبهة الإخوانية على مفاصل الدولة ومقدراتها.

وطبقًا لذلك فقد سرد الكاتب العديد من المواقف والأحداث المريرة والتفصيلات المخزية عن الممارسات الإخوانية التي نجحت في تحقيق أرقام قياسية في درجة الاستياء والامتعاض الجماهيري لا سابقة لها في تاريخ مصر على إطلاقه.

وقد أوجز الكاتب بعضًا من هذا حين أكد أن الجبهة الإخوانية لم يتسع صدرها لاستيعاب جميع الأطياف المجتمعية، من ثم فقد أهدروا فرصة تاريخية كانت تسمح لهم بتصحيح الصورة الذهنية عنهم لدى المصريين، ذلك أنهم لم يعتبروا بدروس التاريخ وعبره وأصروا على اللعب بمنطق قديم قد لفظه الشعب المصري من قبل ذلك لافتقادهم أي مفردات لمشروع سياسي نهضوي حضاري. وقبل ذلك وبعده ما تبدى في ملامح عديدة تؤكد جميعها غياب فضيلة الانتماء للوطن أو تاريخه أو حضارته أو مسيرته الخصبة المحتشدة بنضالات أسطورية خاضها شعب جبار مدفوع بقناعاته الدينية والروحية والفكرية، تلك التي أطاحت بالصنم الإخواني الذي ظل طيلة ثمانية عقود يتحسس دروب السلطة، وحين بلغها لم يستطع الصمود أمام التحديات والطموحات القومية التي فرضتها تلك اللحظات المهيبة التي عاشتها مصر فسقط سقوطًا مدويًا.

ولعل ما جاء في كتاب (أسرار 50 سنة صحافة) يضع أمام الأجيال القادمة بعضًا من مشاهد الملحمة الوطنية وما حفلت به من طرائف ووقفات ووقائع سجلت نبض الحقيقة وأغضبت الضمائر المراوغة، وأرضت تلك العقول المترنحة التي كانت مأخوذة بتيار الوعي الزائف وكشفت عن الإيقاعات الخفية لمهنة القلم.. الذي أقسمت به السماء.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة