أنبوب كولين باول

28-3-2023 | 12:47
الأهرام العربي نقلاً عن

كانت وصمة عار فى تاريخى المهنى، هكذا كتب فى مذكراته، فالخامس من فبراير 2003 كان  يوما للعار للجندى الشجاع فى مسارح العمليات، الذى تخاذل فى ساحة السياسة.

نطق لسانه بما لا يؤمن حقا، كان ذلك اليوم  هو الأصعب من أيام الجندى الشجاع الملتزم كولين باول، وزير خارجية  أمريكا فى إدارة جورج بوش الابن.

ذهب إلى جلسة مجلس الأمن محملا بوثائق وأدلة، على حيازة العراق لأسلحة دمار شامل: صور أقمار صناعية لصواريخ  عملاقة،  سيارات نقل ضخمة تقطع صحراء خالية، أوراق كتبها شهود سريون، معلومات سرية من استخبارات عالمية متعددة، وأخيرا رفع أنبوبا به مسحوق أبيض، وقال بثقة الممثل البارع: إنها أسلحة بيولوجية ينتجها العراق كأسلحة دمار شامل، متكئا على الكلمات: إنها حقيقة لا يرقى إليها الشك!

فيما بعد قال باول فى مذكراته، ذات العائد المجزى بستة ملايين دولار: كانت وصمة، لأننى أنا من قدم هذا العرض للعالم باسم الولايات المتحدة، وستبقى على الدوام جزءا من حصيلة أدائى.

كان يمكن للجندى كولين باول أن يمتنع عن تمثيل الدور، فيمنع تدفق الدماء بشهادة واحدة، كان يعلم الحقيقة، ويعلم أن نائب الرئيس ديك تشينى، والشاعر السريالى وزير الدفاع  دونالد رامسفيلد يتعطشان للدماء، ويرغبان فى غزو بلاد يأجوج ومأجوج كما قال بوش الابن.

حول العالم كان كثير من الناس، ينتظرون من الرجل الناعم فى إدارة خشنة أن يمتنع عن الكذب أمام مجلس الأمن، لكنه مثل الدور دون اقتناع، مبررا:  ما الخيار الذى كان أمامي؟ إنه الرئيس.

جاء الأمريكى خبير الأسلحة المحرمة ديفيد مكاى، بعد الغزو بأسابيع ليعترف بأن العراق لم يكن يمتلك أسلحة دمار شامل، فوجدت الإدارة عصا موسى فى فكرة نشر الديمقراطية، وأن الغزو جاء من أجل جعل العراق منصة ديمقراطية تنطلق منها صواريخ هذه الديمقراطية إلى المنطقة العربية!

نشط” الليبراليون العرب المتوحشون”، فى نشر الفكرة الجديدة بسرعة فى كل وسائل الإعلام، غيروا من نمط الخطاب، وكانوا قبل أسابيع يستشهدون بوثائق باول فى مجلس الأمن، وأن العراق سيدمر العالم فى 45 دقيقة كما قال البريطانى تونى بلير، شريك الغزو.

ظهر بيان لما يسمى الليبراليون العرب، مدحوا فيه فكرة تغيير الأنظمة العربية بالقوة الخشنة، وأن على واشنطن مواصلة نشر الديمقراطية، واستنساخ العراق، وجعله حالة  عربية عامة.

كولين باول  قدم اعتذارا فى مذكراته عن تلك السقطة، لكنهم  لم يعتذروا، وكانوا فى مقدمة الصفوف  المطالبة بتكرار حالة العراق فى عموم الإقليم العربى، ووقع بعضهم بيان مناشدة للرئيس الأمريكى التالى: باراك أوباما، وقد نفذ الأخير تلك المناشدة فيما سمى بالربيع العربى، ذلك الغزو المقنع باسم الديمقراطية والحرية، وكانت النتيجة بعد عشرين عاما أن وجد الإقليم العربى نفسه، فى سلسلة من الفوضى التى لا تزال تضرب بعضا من أطرافه.

هل كان كولين باول، يعلم بأن كلماته فى مجلس الأمن بمثابة جسر للموت والفوضى؟ وهل كان بمقدوره الخروج على النص؟ ويغير التاريخ بكلمة واحدة؟

العهدة على التاريخ ليجيب عن هذا السؤال المحرج، لكن ما اعترف به باول فى مذكراته يعد دليلا واضحا لا يسقط بالتقادم، فإذا كانت هناك شعوب تستيقظ الآن، وتطالب بتعويضات عن فترات الغزو والاحتلال والدماء الزكية التى سالت، فإنه سيأتى يوم سيتم فيه فتح كل الملفات، ويتشكل نظام عالمى جديد، من كتل ثقافية لا تجور واحدة على الأخرى.

 

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة