من النادر هذه الأيام أن تفتح مطبوعة ورقية، أو موقعًًا إلكترونيًًا، والسوشيال ميديا دون العثور على مقالات وتحليلات مستفيضة وتغطيات إخبارية شاملة وحصرية عن الصين ونزاعها الشرس مع الولايات المتحدة على الهيمنة السياسية والتكنولوجية والاقتصادية والعسكرية، فلا صوت يعلو في الصحافة العالمية قاطبة الآن على الشأن الصيني، والمخاوف المتزايدة من التمدد السياسي لبكين وتبعاته على "العم سام" الحائر وغير القادر على إيقاف التنين الصينى والحد من نفوذه ووتيرة صعوده الصاروخي.
أسمع في الخلفية أصواتًا تتعالى نبرة أصحابها المتسائلين باندهاش وما الجديد في ذلك يا هذا، فهي حاضرة بقوة في الميديا الأمريكية والأوروبية منذ فترة، ويتبعون قولهم وتأكيدهم السالف بالإشارة إلى أن أمريكا وحلفاءها الغربيين يوظفون وسائل إعلامهم كأداة حادة "لشيطنة" الصين، وبث الرعب في أوصال مواطنيهم؛ مما سيترتب على السيطرة الصينية واستغلالها الفراغ الناجم عن انحسار الدور الأمريكي دوليًا، جراء تخبط واشنطن وارتكابها أخطاءً كارثية مهدت الطريق أمام الصين لإبراز استحقاقها أن تصبح القوة العظمى البديلة للولايات المتحدة، وأنها مؤهلة تمامًا للاضطلاع بمهامها، ولديها ميزانا الرشد والتعقل اللتان تفتقدهما أمريكا في سياساتها غير الحصيفة والمتغطرسة حيال الأزمات الدولية.
الجديد في الأمر يا أعزائى أن اللعبة بين أمريكا والصين لم تعد تدور في حلبة المنافسة، بل في دائرة الصراع بكل ما يميزها من خصال خبيثة وشريرة وضربات متواصلة أسفل وفوق الحزام، وأن بكين باتت تمتلك ثقة كبيرة في نفسها وإمكانياتها ولم تعد تتوارى خلف لافتة الدولة النامية الساعية لتحسين أوضاعها الاقتصادية والمالية، وأن مشوارها على الدرب لا يزال طويلا وممتدًا، وأنه يجب معاملتها كقوة عظمى يحق لها نيل فرصتها في بناء نظام دولي مغاير للسائد، منذ نهاية الحرب الباردة مطلع تسعينيات القرن العشرين، ولا ترى غضاضة في ضرورة أن يتوافق هذا النظام مع مبادئها ورؤيتها لحاضر ومستقبل عالمنا.
علاوة على أن الصين لم تعد تخفي طموحاتها السياسية، وتعمدت أن تكون في موضع الاختبار العملي بتصديها لإذابة جبال الثلج المتراكمة بين السعودية وإيران، وتسهيل وصولهما لاتفاق باستئناف علاقاتهما الدبلوماسية المقطوعة من سبع سنوات، وطرح أفكارها ومبادراتها لتسوية الأزمة الروسية الأوكرانية، ووقف الحرب الدامية المشتعلة بين البلدين منذ أكثر من عام، وتدفع البشرية فاتورتها الباهظة اقتصاديًا وماليًا وأمنيًا حتى وقتنا هذا، وجاءت الزيارة الأخيرة للزعيم الصيني " شي جينبينج " لموسكو ولقاؤه مع نظيره الروسى فلاديمير بوتين، لتأكيد هذا الجانب، وذهب محللون غربيون إلى أن بوتين القوى دخل الفلك الصيني، وأن روسيا أضحت واقعة ضمن نفوذ بكين التي تجاهد لإخراجها سالمة وبأقل الأضرار من المستنقع الأوكرانى.
الجديد أيضًا أن الحكومة الصينية لا تتورع عن توجيه الضربة تلو الآخرى لأمريكا ولا تغض الطرف عن تحرشاتها بمحيطها الإستراتيجي في جنوب شرق آسيا، والمحيطين الهادئ والهندي، ووصلت إلى عقر دارها باختراق مناطيدها الأجواء الأمريكية والسياحة فيها لأيام متتالية، والرسالة كانت واضحة بأن اليد الصينية تستطيع أن تطال الداخل الأمريكي بأيسر مما يتخيلون، ناهيك عن الإزعاج والصداع الناتج عن تطبيق "تاك توك" الصيني المنشأ الذي أضحى معضلة عويصة تهدد الأمن القومي الأمريكي والأوروبي، ويزعج الدوائر الأمنية والاستخباراتية لديهما.
بناء على ما سبق بمقدورنا تفهم دوافع ومبررات الاحتشاد الغربي الأمريكي خلف بدء موسم اصطياد التنين الصينى، وإدخاله شبكة متينة تحد من اندفاعاته وانطلاقاته المقلقة لهما، فهما يجتمعان على رفض انتقال الثقل الحضاري والسياسي شرقًا، وهو ما يحجمان عن الإفصاح عنه علانية، ويعزى رفضهما لنظرة استعلائية لا تخلو من العنصرية في أجلى صورها، فالرجل الأبيض لا يقبل منازعته من قبل أبناء "الجنس الأصفر" الذين أثبتوا أنفسهم بالميادين الاقتصادية والمالية والتكنولوجية، ويود أن يظل هو في مكانة الصدارة والرفعة والباقون تابعين له، ومتحلقين حوله.
ويغفل الأمريكيون والغربيون عن حقيقة وحتمية حدوث تحولات في الثقل الحضاري والسياسي، مثلما جرى عقب الحرب العالمية الثانية، وانهيار الاتحاد السوفيتي السابق، وأن الآسيويين تمثلهم الصين جديرون بنيل حظهم وحقهم في كسر الاحتكار الأمريكي والغربي للنظام الدولي أحادي القطبية، وأنه حان أوان شروق شمس التعددية، حتى لا يبقى العالم أسيرًا لشطحات وتقلبات ومصالح سادة واشنطن ومَن يمول حملاتهم الانتخابية، ولدينا نماذج لا تعد ولا تحصى تؤكد وتبرهن هذا من العراق إلى أفغانستان.
إن أمريكا والداعمين لها يعقدون آمالا عريضة على موسم اصطياد التنين الصيني، وأن يختتم بتقليم أظافر بكين وإعادتها لحظيرة الطاعة الغربية، أو إعاقتها عن التقدم لبعض الوقت، حتى يتوصلوا لسبيل يقاومون به اندفاعها الدائم للأمام على حساب نفوذهم وسيطرتهم، وسنرى مَن الذي سيصطاد الآخر في نهاية الموسم وسيكون صاحب الغلبة والصولجان.