بحثا عن مخرج من الأزمات المتوالية التي تواجه الاقتصاد المحلي والوصول إلى حلول لها، تعددت خطط الإصلاح الاقتصادي، وتوالت برامج الإصلاح المالي والنقدي، وتنوعت الجهود ما بين هيكلي وتشريعي وتنفيذي، وبين ما هو عاجل وما هو آجل، إلا أن العثرات المالية والأزمات النقدية والمصرفية مازالت متوطنة، تتوالى معها المعضلات الاقتصادية، وتتوارى خلفها الأزمات ما بين عالمية وإقليمية ومحلية.
غالبا ما نلتفت إلى أفق للحلول للمعضلات الاقتصادية في المدارات الإقليمية والعالمية، لكننا لا نلتفت إلى الحلول المحلية والذاتية، فهي الأكثر ضمانا، والأسرع تأثيرا، والأقل تكلفة، والتي هي من بين أيدينا، وهي: "التعاونيات وأسس الاقتصاد الاجتماعي"، الذي نمتلك كافة أسباب نجاحه وموارده وعناصره واستمراريته.
طرقنا الأبواب، وجربنا برامج الإصلاح الاقتصادي شرقا وغربا، وطبقنا اقتصاديات من كل اتجاه، ما بين رقمي، وريعي، وسلعي، ورأسمالي، إلا أن النتائج لم تكن مرجوة على الإطلاق، لأنها تطبق وتعمل فقط عبر أطر مؤسسية تنفيذية خارجية، دون مشاركة مع كيانات تعاونية مجتمعية تشاركية محلية.
فكرة التعاونيات، أو الاقتصاد الاجتماعي، هي باختصار إدارة المجتمع لموارده الذاتية بنفسه.. الإدارة الذاتية للموارد، فإذا استمر المجتمع بعيدا عن المشاركة، فإن النتائج السلبية متوقعة، فما يحدث في التعاونيات يحاكي ما يحدث في منظمات المجتمع المدني، غياب الثقة، التشريعات القديمة، وضعف الإدارة.
ومن الواضح أن المؤشرات الايجابية التي يحققها الأداء الاقتصادي لم تتوقف يوما، مثل نسب النمو الاقتصادي الجيد، وكثيرا مانقرأها ونراها تتصدر التقارير ووسائل الإعلام والاتصال في الداخل والخارج، إلا أن معدلات النمو التى تتحقق لا يشعر بها المواطن ولا تنعكس على حياته، لأنها تتحقق نتيجة لتراكم رأس المال، ونتيجة للاقتصاد الخدمي، وليس الاقتصاد المنتج، وهذا الاقتصاد الخدمي أو الاستهلاكي يعتمد على المضاربات والخدمات المالية الوسيطة فى تحقيق معدلات النمو، وتكون النتيجة أن ثمار هذا النمو تتحقق بعيدا عن المواطن.
نتحدث كثيرا عن البعد الاجماعي، لكننا نهمل تطبيق هذا البعد في التعاونيات، بل إن جوهر التعاونيات هو في تحقيق البعد الاجتماعي، وفي العدالة الاجتماعية، التي تضع حلولًا للمشكلات ومعوقات الإصلاح الاقتصادي، إضافة إلى تحصين الاقتصاد الوطني ضد المتغيرات العالمية.
وتقف التعاونيات على الحياد بين القطاعين العام والخاص، باعتبارها حلا جادا وواقعيا لكل تشوهات الاقتصاد مثل البطالة، وغياب البعد الاجتماعي، والفجوة بين الأثرياء والفقراء، فضلا عن تعزيز سبل الحياة الكريمة للناس في تنوع خدماتها، إضافة إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي بأسعار مناسبة، والأهم هو رفع مستوى المنتج المحلي بتراكم الخبرات، واستثمار وتنوع مصادر الموارد الطبيعية والمواد الخام المحلية.
وفي الوقت الذي يتمتع فيه مجتمعنا بالكثير من القيم الداعمة للفكر والنشاط التعاوني، إلا أن هذا القطاع في تراجع لافت، بالرغم من أن مجتمعنا غني بقيم التطوع والتكافل والترابط، وهي قيم من صميم العقيدة الدينية في الأساس وبالتالي العمل المجتمعي، كما نمتلك الموارد الطبيعية والبشرية والخبرات في نشر ثقافة التعاونيات.
والتساؤل هو: ما هي معوقات تطبيق هذا الفكر التعاوني لكي يسود مايعرف ب "الاقتصاد الاجتماعي"، هي معوقات 3، تشمل التشريع، والإدارة، ثم التمويل، والمطلوب هو إصدار قانون موحد للتعاونيات، وواقعيا فلدى كل محافظة قانون يختلف عن المحافظات الأخرى في مجال العمل التعاوني، منذ نشأت التعاونيات في الستينيات، ثم صدر قانون تنظيم عمل التعاونيات عام 1975، ونتيجة لإهمال هذا النشط، فقد تراجعت أعداد الجمعيات التعاونية من 12 ألف جمعية إلى 3.500 جمعية، بنسبة تراجع بلغت حوالي 71%، هذا بالرغم من تزايد أعداد السكان.
للدكتور إسماعيل عبد الجليل رئيس مركز بحوث الصحراء "سابقا"، رؤية حول التعاونيات التي يعتقد أنها سر نجاح دولة رأسمالية مثل الولايات المتحدة ويشكل القطاع التعاوني ما بين 50-70 % من نسبة اقتصادها، فضلا عن عدد كبير من دول أوروبا الصناعية والعالم، وطالب، خلال جلسة "التنمية المستدامة" بمركز معلومات مجلس الوزراء مؤخرا، بإعادة النظر في التشريعات القائمة، وفصل الملكية والحيازات عن إدارة التعاونيات، والإسراع بإنشاء المجلس الأعلى للتعاونيات، ونبه إلى أن أحد أهم أهداف التنمية المستدامة هو خاص بإحياء الاقتصاد التعاونى المعروف عالميا بالاقتصاد الاجتماعى، وهو ما يستلزم إحياؤه بتنفيذ قرار رئيس الوزراء رقم 1008 لسنة 2018 بإنشاء المجلس الأعلى للتعاونيات، وقال: "هذا المجلس لم يعقد اجتماعا واحدا منذ صدوره حتى اليوم".
ويرى ضرورة أستحداث مؤسسات قوية تضمن استدامة مشروعات التنمية، وخاصة فى المناطق الريفية الحاضنة لأغلبيه السكان، وأضاف أن مليارات الإنفاق على مشروعات تطوير القرى لم تحقق العائد الأمثل المنشود منها بدون هيكل يديرها بعيدا عن وزارتى التضامن الاجتماعى والحكم المحلى، واقترح د. عبد الجليل، استحداث وزارة للتنمية الريفية بمفهومها الإستراتيجى العلمى السليم لاستعادة القرية المنتجة..
نستكمل رؤية الوصول إلى الاقتصاد المجتمعي عبر التعاونيات، الأسبوع المقبل إن شاء الله.
[email protected]