Close ad

أحاديث مع الأبنودي (2)

2-3-2023 | 13:57

بعيدًا عن سخط بعض المثقفين القاهريين على الشاعر عبدالرحمن الأبنودي بسبب كتابته أوبريت "الليلة المحمدية" الذي دعمت كلماته كفاح دولة الكويت ضد الغزو العراقي، فقد غادر الشاعر إلى البحرين بعد عرض الأوبريت على مسرح الجلاء بالقاهرة بيومين فقط؛ لإلقاء قصيدته الجديدة لأول مرة، تلك القصيدة التي تبعت الأوبريت جاءت بعنوان: "الاستعمار العربي"، وهناك في المنامة قوبل كالفاتحين، كما قال لي.  

وقصيدة "الاستعمار العربي" تنضح آلامها من عنوانها، وفيها يقدم صدام حسين مبررات الغزو، ثم يستعرض الفلاح الصعيدي "عبد العال" وزوجته "مبروكة" الأحوال، هو الذي كان يعمل في العراق، وتم طرده من هناك بعد إصابته في الحرب ضد إيران، لكن "عبدالعال" يعود إلى العراق مجددًا عندما يعلم باستعدادات الهجوم على إسرائيل، لكنه وجدهم يدخلون الكويت، أما القسم الأخير في القصيدة فهو ذاتي ينعي فيه الشاعر المعاملة المؤلمة للأمة المصرية التي أعطت وتعطي دائمًا للقضايا العربية على عكس غيرها، انتظارًا لكلمة طيبة من أمتها التي لا تنطق بها أبدًا. 

ورؤية الأبنودي كما حدثني عنها تتركز في أنه لا يستطيع المشاركة في الخيانة بالصمت، وأن الدفاع عن طرف صاحب حق ضد الطرف الآخر إنما هو دفاع عن قيمنا الذاتية وشرفنا الشخصي، كان الحوار مع الأبنودي في تلك الأيام من العام 1990 قد وصل بي إلى أنه لا شيء يضاهي فقدان الوطن في الكويت، وثمن الشاعر موقف مصر، وتجنيد كل قواها وإمكاناتها لوقف تلك المهزلة. وقد قال لي إنه كتب أوبريت "الليلة المحمدية" تاركًا القلم ينزح من بئر ممتلئة دموعًا ودمًا. 

تلك المعايشة للحدث أعتبرها الأبنودي في حوار آخر معه نشرته في جريدة البلاد السعودية مهمة للشاعر، قال لي: لولا قرانا لما انتخبنا الريف للتعبير عنه، ولولا قضايا أمتنا لما احتضنتنا هذه الأمة، وتذكر تجربة الإقامة لمدة عام في أسوان خلال فترة بناء السد العالي، وإقامته لمدة عامين في السويس أثناء حرب الاستنزاف، ما انعكس على أشعاره فيما بعد.  

كانت مصر وسوريا دولة واحدة في بداية الستينيات عندما رفض جمال عبدالناصر إعلان العراق ضم الكويت، بينما في التسعينيات، ذهب الرئيس مبارك إلى الرئيس السوري حافظ الأسد ليقنعه بإرسال قوات سورية إلى حفر الباطن ضمن التحالف.

وحكى الأسد لرئيس تحرير جريدة "الحياة" جهاد الخازن، أنه سأل مبارك: لو أرسلت قوات مصرية سأذهب معك، وهو ما حدث، وكان العنوان الرئيسي للصحيفة العربية الشهيرة. 

هكذا كان الأبنودي نصيرًا لكل نضال سياسي من أجل استرداد الحقوق المشروعة، ولم يكن موقفه من الكويت استثناء، وقبل غزو العراق للبلد الشقيق بحوالي سنة تقريبًا، أتذكر حديثي معه وهو يعيش في "بحيرة من السعادة" كما وصفته في الحوار المنشور في جريدة "الحياة"، بسبب حصوله على الميدالية الذهبية لعام 1989، من مركز ناجي العلي الثقافي في بيروت، وكان قد أصدر ديوانه الشهير في نعي ناجي العلي "الموت على الأسفلت". 

عد الأبنودي جائزة ناجي العلي مبعثًا للفخر: "لأني والعلي فقيران، لم نكن بوقًا لجهة أو مجموعة يومًا، إنما نحن صوتان حران لم يستطع أحد شراءهما، بل نتمتع بحب شديد من شعبنا وكراهية رائعة من إعدائنا"، في ذلك العام أكمل الأبنودي الخمسين من عمره وتسلم الجائزة في بيروت التي يراها لأول مرة، وكانت الأولى أيضًا التي يلتقي فيها الشاعر مظفر النواب.  

ويعترف لي الأبنودي بأنه محظوظ، ذكرني بقول مماثل للكاتب الكبير نجيب محفوظ، هل دفعته إلى ذلك، ربما.. فقد سألته: هل تشعر أنك شاعر محظوظ، وأن كلمتك واسمك يصلان إلى المواطن العربي، فاجأني بالرد كالآتي: أنا محبوب من أمتي، والحظ صناعة يدوية، جهد ومجاهدة.. لقد انتميت للأمة، ونلت شرف التصديق والمباركة.. نعم أنا محظوظ.  

والأبنودي يقدر نفسه جيدًا ولا يتسامح في موقعه الثقافي مطلقًا، لكنه في الإنسانيات شديد المرح والحضور والتواضع، وهو شخصية ساخرة وفرحة، وحكاء ماهر، وصاحب إلقاء مطبوع، ويعشق الجمهور وتهليله، ويغني ويصنع البهجة حتى ولو في غرفة الإنعاش في مستشفى، أو في زنزانة ضيقة في سجن القلعة القديم، وكان يضحك من مداعبات الشاويش الذي ينادي عليه وهو يمر أمام زنزانته: "واهي دنيا بتلعب بينا.. على رأي الأبنوبي"، وكان الشاويش يظن أنه مؤلفها، وهو ما نفاه: مش أنا يا عم سيد إللي كتبتها، ده الأستاذ صلاح أبوسالم.. فيرد: أمال همه جابوك هنا ليه. 

وأتذكر ما حكاه لي عن شخص انتحل شخصيته وأدانته محكمة في القاهرة، بسبب جمعه أموالًا بزعم إنفاقها على الفقراء، قال لي: إنه يقلد صوتي بطريقة طبق الأصل، وإذا حدثك على الهاتف لا تستطيع أبدًا أن تفرق بيننا، ولكي يحقق مراده يتابع تنقلاتي وندواتي وتحركات زوجتي، واستولى من وراء ذلك على أموال جمعية التكافل الاجتماعي الخيرية.. وقرر الأبنودي الذهاب لرؤيته في المحكمة، متوقعًا - كما حكى لي أن يلتقي بالممثل الفرنسي آلان ديلون - لكنه وجد شخصًا بائسًا مريضًا، والغريب أنه تحدث معه وهو يقلده بنفس صوته، وكأنه أمام مرآة سمعية، رغم ذلك طلب الإفراج عنه ومساعدته، ورفضت المحكمة.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة