منذ أيام فاز الصحفي المصري شريف عبدالقدوس بجائزة جورج بولك الأمريكية للصحافة لعام ٢٠٢٢ هو وفريق العمل، عن الفيلم الوثائقي "شيرين.. اغتيال الكلمة"، هذه الجائزة المرموقة تٌمنح سنويا من جامعة لونج آيلاند في ولاية نيويورك منذ عام 1949، لأفضل إنتاج إعلامي "أصيل وملهم" في مجال الصحافة المطبوعة والمرئية.
يكشف الوثائقي الحقيقة عن مقتل الصحفية الفلسطينية ومراسلة قناة الجزيرة شيرين أبوعاقلة على يد القوات الإسرائيلية في مايو الماضي خلال غارة بالضفة الغربية المحتلة، عرض الفيلم مقاطع فيديو وروايات شهود عيان عن مقتل أبو عاقلة، لإثبات أنها قُتلت برصاص قناص إسرائيلي في رأسها، وهو اكتشاف مدعوم بالعديد من التحقيقات الصحفية الأخرى.. كانت شيرين ومراسلون آخرون يرتدون خوذات وسترات زرقاء كٌتب عليها بوضوح "صحافة" لكن شيرين كانت هدفا إستراتيجيا دقيقا للقوات الإسرائيلية، شيرين كانت تنقل ما يحدث في الداخل الفلسطيني من انتهاكات تمارس ضد شعبها من قبل هذا المحتل الإسرائيلي، وكانت واحدة من أفضل وأقوي المراسلات الصحفيات في تغطية الأحداث الفلسطينية في الداخل، وتمكّنت من تشكيل ذاكرة وجدانية لشعوب العالم والوطن العربي من خلال تغطيتها للأحداث لمدة ربع قرن تقريبا.
" شيرين.. اغتيال الكلمة" قدم سردا جنائيا للأحداث التي سبقت وتلت إطلاق النار على الإعلامية الراحلة شيرين، مدللا على ذلك بروايات شهود العيان، وكانت عدة تحقيقات مستقلة، من ضمنها تحقيق للأمم المتحدة، قد وصل لنتيجة وهي: أن الصحفيين والمراسلين الذين كانوا في المكان تعرضوا لإطلاق النار من قبل القوات الإسرائيلية بعد وقت قصير جدا من وصولهم إلى مخيم جنين للاجئين عن عمد، رغم ارتدائهم سترات الصحفيين المميزة.
تناول الفيلم أيضا الانتقادات الموجهة لطريقة تعامل إدارة الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن مع قضية اغتيال أبو عاقلة، لا سيما أنها تحمل الجنسية الأمريكية!، كما كشف الوثائقي أن شهود العيان الرئيسيين لم تقابلهم اللجنة الإسرائيلية المعنية بالتحقيق في الاغتيال!، مما أثار تساؤلات بشأن مصداقية النتائج التي توصلت إليها، والتي دعمتها الإدارة الأمريكية!!
هذه الجائزة ليست الأولى لشريف عبد القدوس، فقد فاز عام ٢٠١٨، بجائزة "الإيمي" الخاصة بالتغطية الأكثر تميزًا، عن الفيلم الوثائقي “Fault Lines” خطوط الصدع، الذي يكشف عن التمييز العنصري لسياسة ترامب مع المهاجرين ضحايا الحروب.
هو لم يدرس الصحافة في بداية حياته، بل درس الاقتصاد والفلسفة، وعمل بأحد البنوك في الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن لم يستمر طويلا في العمل البنكي، ذهب إلى دراسة الصحافة والكتابة الصحفية، وحصل على عدة دورات لإتقانها، ولم لا وهو يحمل بالوراثة والجينات والتاريخ والجغرافيا كل مقومات الصحافة والرغبة في البحث عن الحقيقة، وكشف المحجوب..
في ١١ سبتمبر ٢٠٠٢ شاهد انفجار برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك، وهنا بدأ اهتمامه بالسياسة بعدما رأى العنصرية والانحياز ضد العرب والمسلمين، قرر أن يكرس حياته ليقدم صورة حقيقية عن العرب والإسلام ويغطي الأحداث بموضوعية بعيدا عن هذا الانحياز العدائي، وليّ الحقائق وتشويهها، الذي اشتهر به الإعلام الأمريكي أو الغربي.. ضد كل ما هو مسلم وعربي، وكان طريقه في البداية بالغ الصعوبة، ولكنه نجح في الحصول على عمل في قناة تليفزيونية مستقلة، وسافر إلى العراق بعد بدء الحرب عام ٢٠٠٣ لتغطية أحداثها وحقق نجاحًا كبيرًا، ثم سافر بعد ذلك إلي كل المناطق الخطرة في ليبيا وسوريا واليمن والجزائر بحثا عن الحقيقة التي لا تري النور، وكأنه يريد أن يكون صوت من لا صوت لهم، وفي ٢٥ يناير ٢٠١١ عاد شريف إلى بلاده ليعيش ويكتب عن هذا التغيير..
شريف عبد القدوس شاب مصري واعد، يحمل جينات البحث عن الحقيقة، يكتب كتابة مسئولة ومؤثرة، ويتحمل تبعات نشر ما لا ينشر بمنتهى الصلابة، رغم هدوء ملامحه وصوته الخفيض، وابتعاده عن الأضواء، إلا أنه يملك أدوات الصحفي الحقيقي الحر، لا يرضى باللجوء إلى المناطق الهادئة في الكتابة والبحث، هو دائما يختار أن يكون صوت من لا يستطيع الكلام، يذهب شرقا وغربا بحثا عن الحقيقة مهما تعرض للمصاعب والأخطار، رغم أنه كان يستطيع دخول عالم الصحافة من أوسع الأبواب، إلا أنه اختار أخطر ما في هذه المهنة، وهو كشف الحقيقة والبحث عنها وهو أمر مضنٍ وشاق.
شريف يمثل الجيل الرابع في العائلة، فجدته لوالده السيدة روز اليوسف رائدة الصحافة في القرن العشرين، وأستاذة لجيل من أهم كتابي و صحفيي مصر الذين بدأوا خطواتهم الأولى في مدرسة روز اليوسف وصباح الخير، وجده هو الكاتب الكبير إحسان عبدالقدوس الذي خاض عشرات المعارك السياسية، دفاعا عن الحرية والتنوير والفكر الحر، وتعرض للرفد من العمل، وتعرض أيضا لمحاولات اغتيال، و له أكبر الأثر في قرائه حتي الآن، ووالده المهندس أحمد الذي يتحمل مسئولية الحفاظ علي تراث العائلة الادبي والصحفي، وعمه الكاتب الكبير والنقابي محمد عبدالقدوس، قابلت شريف في الاحتفال بمئوية الأستاذ إحسان في مجلة روز اليوسف منذ سنوات، وشعرت أن هذا الشاب خير امتداد لهذه الأسرة ذات الأثر القوي في عالم الصحافة والسياسة والحريات.
واليوم مع فوزه الجديد، تذكرت أن إحسان عبدالقدوس الذي فجر قضية الأسلحة الفاسدة في حرب ١٩٤٨ منذ ٧٤ عاما، عاش عمره يدافع عن فلسطين، اليوم الحفيد شريف أحمد إحسان عبدالقدوس الذي يمثل (الجيل الرابع) يكمل المسيرة ويحقق ويبحث لنصرة القضية الفلسطينية ويوثق لهذه الجريمة المكتملة الأركان التي هزت كل من يحمل قلمًا أمينًا، وزلزلت كل من يملك ضميرًا حيًا حتى الآن.