في المدرسة الثانوية رأيت لأول مرة في حياتي فريق الموسيقى النحاسية، وتعلقت بآلة الكلارنيت ثم الساكسفون، لكنني لم أتصور وأنا أنضم إلى الفريق أنه سوف يكون سببًا في تحقق حلم سفري للخارج.. انتهت دراستي الثانوية والتحقت بالجامعة، لكن لم تنته علاقتى بفريق الموسيقى، ظللت أشارك في أنشطته التى كان أكثرها تشويقًا لنا جميعًا المعسكر الصيفي السنوي في أبى قير، وهناك أخبرني أحد زملائي المقربين ممن التحقوا بكلية التربية الموسيقية أن لجنة من أساتذة الكلية سوف تزور المعسكر هذا العام لاختيار بعض الطلاب للمشاركة في وفد الشباب الذي سوف يمثل مصر في النمسا.
لم أتوقف عند كلمات صديقي لأنني لم أتصور للحظة أن اللجنة قد تختارني، وتعجب صديقي من أمري مؤكدًا أنه يعرف أعضاء اللجنة جيدًا وأن كل المطلوب أن أعزف جيدًا أمامهم، فبدأت الفكرة تتملكني وحلم السفر الذي أعشقه منذ الصغر يداعب مخيلتي، وبالتالي بدأ الخوف من عدم اختياري يطاردني بقوة ويؤثر على أعصابي، حتى جاء يوم الاختبار واختارتني اللجنة ضمن الفريق.
فى تلك الفترة كانت أقصى أحلام جيلنا أن نقضى يومًا على شاطئ ميامى بالإسكندرية، كان التفكير في رحلة الأقصر وأسوان رفاهية لا يملكها الكثيرون؛ لذلك أرجو منك عزيزي القارئ أن تطلق لنفسك العنان لتتخيل وقع خبر سفري إلى النمسا على من حولي، لأنني لن أستطيع وصفه.
تم اختيار الفريق وتمت التدريبات وتحدد يوم السفر، منذ وقوفي في المطار - للمرة الأولى في حياتي - شعرت أن تلك الفرصة قد لا تتكرر وقررت أن أستمتع بكل لحظة فيها، لذلك لم أتردد أن أطلب من المضيفة أن أدخل لرؤية كابينة القيادة التي أدهشني حجمها الصغير للغاية وأثار فزعي كثرة الأزرار المحيطة بقائد الطائرة، ماذا لو ضغط أحدها على سبيل الخطأ؟ فخرجت منها مسرعًا، لم أتردد أيضًا في العزف أنا وزملائي أثناء الرحلة والمسافرين يصفقون لنا.
توقفت الطائرة في أثينا لمدة ساعتين ثم انطلقنا إلى فيينا، في كل صعود وهبوط للطائرة كنت أرقب وأتأمل شكل تلك المدن، تقسيمات الشوارع، ألوان المنازل، شكل الحقول، حركة السيارات..إلخ، نقطة نظام تفرض نفسها عليك شئت أم أبيت، وصلنا إلى فيينا ثم أخذنا الأوتوبيس إلى مدينة "لينز" لتكون مقر إقامتنا، ومنها ننطلق إلى عدة مدن لإقامة حفلات وفقًا لبرنامج الرحلة، "لينز" مدينة صغيرة هادئة يمكن أن تحفظ كل أركانها خلال يومين فلا تشعرك بغربة، أفضل ما قد تجده هناك والذى كان غريبًا بالنسبة لنا أن "كل واحد في حاله".
كان الاحتكاك الأول والمباشر بالمجتمع الأوروبي، ساعدتني لغتي الإنجليزية على التعامل والاندماج السريع وسرعة التعارف وتكوين صداقات مع بعض النمساويين، لو رأيتني وأنا أسير في الشارع بكل ثقة، قد تتصور أنني من أبناء المكان، لكن خلف ذلك القناع كان عقلي في حالة ذهول بالمعنى الحرفي للكلمة؛ مما آراه من نظام ونظافة وجمال في كل شيء، كل شيء كان رائعًا فيما عدا الجبنة الروكفوورد التي كانوا يقدمونها لنا على الإفطار، لم أتذوقها في حياتي وياليتني ما فعلت، فوجئت السيدة التي تقدم لنا الطعام بعلامات "القرف" تغطي وجوهنا، قالت الجبنة لذيذة لماذا لا تأكلون؟ ونحن ننظر إليها بعيون جاحظة ووجه ممتعض يحاول رسم ابتسامة زائفة لإرضاء السيدة، وقبل كل شيء حتى لا نبدو متخلفين حضاريًا، خاصة بعد أن علمنا أنها من أغلى أنواع الجبن، رغم ذلك لم أستطع الاقتراب من الروكفوورد حتى الآن.
النمسا بلد هادئة رائعة الجمال، مدنها منظمة ونظيفة، مبانيها تحمل عبق ماضٍ له سمة خاصة، يقدرون الفنون ويعشقون الموسيقى، وإذا زرت النمسا ولم تزر ريفها فقد فاتك الكثير، زرنا أكثر من مكان في الريف لكنني أتذكر عندما ذهبنا يوم عطلة الأحد ووجدنا سكان إحدى القرى يجتمعون فيما يشبه الميدان الرئيسى هناك يتناولون الطعام سويًا، عزفنا موسيقانا الشرقية فنالت إعجابهم بشكل كبير، وطالبوا بالمزيد والمزيد، ونحن نشعر بفرحة لا توصف.
طبعًا في سن الــ 18 وفى الثمانينيات لا يمكن أن يذهب شاب إلى أوروبا وذهنه يخلو من فكرة أن كل النساء سوف يغمى عليهن وتسقط أرضًا بمجرد أن تعلم أنه مصري، وأنها لن تتنازل عنه مهما يكن، ولكن الحقيقة أنه أمر غير صحيح على إطلاقه، فقد يكون الحديث والتعارف سهلًا، أما غير ذلك فليس بالسهولة التي نتصورها، وبمناسبة ذلك أتذكر أنه في إحدى الحفلات، بعد انتهائنا من العزف، اقتربت مني فتاة أجمل من ليلى علوي.. آه والله العظيم.. سألتني هل تتحدث الإنجليزية، وبسرعة شديدة قلت لها نعم، أخبرتني باسمها وعرفت اسمى، وعبرت عن إعجابها بموسيقانا الشرقية، وأنا أشكرها وأنظر إليها، وكلي يقين وثقة أنها ما جاءت إلا إعجابًا بي، وأنها لن تنصرف حتى تقول أرجوك تزوجني وإلا قتلت نفسي، كما قالوا لي، لكنها شكرتني وانصرفت! لتتحطم آمالي كلها على صخرة الواقع.
بعد يومين قابلت نفس الفتاة صدفة في الشارع، كانت قد انتهت للتو من عملها، وكانت مفاجأة أن أعرف أنها في سن الـــ 16 وتعمل! وكان تعرفي الأول على ثقافة الاستقلال عن الأسرة، دعوتها لتناول الشاي في أحد الكافيهات دون أي تفكير في مسألة "تزوجني وإلا قتلت نفسي" وقررت الارتقاء بعقلي وفكري، والاكتفاء بالتعارف البريء على ثقافة مختلفة، بعد دقائق دخلت فتاة أخرى ففوجئت بجليستي ترمقها بنظرة أعرفها جيدًا وأراها كثيرًا في مصر، نظرت إليها "من فوق لتحت" بطريقة جعلتني أتعجب وأسألها لماذا نظرتي إليها هكذا فقالت "she puts her nose in the sky" يعني أنها "حاطه مناخيرها في السما" ، عندما سمعت ذلك من الفتاة النمساوية، أقسم بالله أنني ظللت أنظر إليها وأحدق في وجهها ولا أصدق نفسي، وكاد لساني يصرخ قائلًا "إنتي منين يا ست إنتي"، لاحظت صمتي فسألتني ماذا بك؟ قلت لها وأنا ابتسم، أن النساء يفعلن ذلك في بلدي، وأن عبارتها معروفة تمامًا في لغتنا وبنفس المعنى، ضحكت بصوت عالٍ وقالت: "يا عزيزي المرأة هي المرأة في أي مكان".