لم يكن يتوقع الجناة أن تثير حيلتهم الشيطانية كل هذه الضجة في مصر، كانوا يظنون أنها ستمر دون أن يدري أحد وحتى لو علم الضحايا أنهم سقطوا في شباك الخدعة فمن منهم سيشكوا أنه اشترى آثارا مزيفة، أو أنه أراد سرقة تاريخ مصر وبيعه للأجانب وأنفق على ذلك أموالا طائلة لكنه تعرض للنصب.
موضوعات مقترحة
الجناة ظلوا لعام كامل يحفرون ويرسمون ويقلدون حتى وصلوا إلى صناعة مقبرة مزيفة يصعب على غير المتخصصين أن يفرقواها عن الأصلية، كل شيء في موضعه وشكل صبغات يوحى بأنها تعرضت لعوامل التعرية والقرون الطويلة، لكن خدعتهم لم تكن لتنجح لولا وجود الطامع الحالم بالقفز دون سلالم.
فبحسب أوراق القضية دفع الضحايا ملايين الجنيهات لشراء المقبرة المزيفة وفي أذهانهم أرباح مضاعفة بعشرات الملايين لكنهم اكتشفوا أن أموالهم راحت ضحية أمام مطامعهم غير المشروعة لتعود للواجهة قضية الطمع وأحلام الثراء السريع والاتجار بالتاريخ.. ويبقى السؤال متى يتوقف هذا النزيف؟.. ولما استشرى هذه النوع الذميم من القضايا المشينة بوطنية كل مصري مخلص؟
مقبرة فرعونية مزيفة
"المقبرة الفرعونية المزيفة" عنوان خاطف تصدر مانشيتات الصحف خلال اليومين الماضيين، حمل وراءه تفاصيل مثيرة بمحافظة بني سويف؛ حيث بدأت القصة بخطاب من النيابة العامة إلى منطقة آثار بني سويف وطالبتها بتشكيل لجنة لفحص مقبرة في منطقة الحيبة بمركز الفشن شرقي المحافظة، وبالاستعلام تبين أن النيابة العامة تلقت بلاغا بقيام بعض المتهمين بالاتجار في الآثار من داخل مقبرة تم اكتشافها في المنطقة المذكورة دون إخطار السلطات المعنية، فأمرت النيابة بمداهمة المكان والتحفظ عليه وإخطار وزارة الآثار، وعليه قررت تشكيل لجنة لفحص المقبرة المذكورة فتبين أنها مزيفة وبداخلها تابوت مصنوع من الجبس وتماثيل مقلدة ورسومات ونقوش على الحوائط مطابقة لرسومات مصرية قديمة وخراطيش وسبائك مطلية بماء الذهب ولكن جميعها مزيفة.
ولمزيد من التأكد قام أمين عام المجلس الأعلى للآثار، الدكتور مصطفى وزيري بمعاينة المقبرة التي هي عبارة عن غرفة أسفل جبل وتؤدي لها 3 سراديب مزيفة أيضا، وهو كذلك أكد أن المقبرة وكل ما تحتويه مزيف، وتم إعداد تقرير للنيابة العامة بذلك مع توصية بضرورة إعدام المقبرة وكل ما تحتويه، وقد تبين أن المتهمين الهاربين أقاموا تلك المقبرة قبل عام من الآن بغرض النصب على الطامعين في تجارة الآثار المجرمة قانونًا، وبالفعل باعوا تماثيل مقلدة على أنها حقيقية لبعض المخدوعين، والشرطة حاليًا تكثف جهودها لضبطهم وضبط كل من تعامل معهم في تلك القضية.
إعدام المقبرة
وأعدمت السلطات المعنية، تلك المقبرة المزيفة حتى لا تستخدم مرة أخرى في عمليات نصب جديدة، فضلاً عن أن كل ما بها من آثار مقلد ولا قيمة له، وأن التهمة التي ستوجه لمرتكبي تلك الواقعة هي النصب والاحتيال وليس الاتجار في الآثار لأنه لا توجد آثار بالمقبرة.
حلم الثراء السريع
يقول المستشار الدكتور أحمد القرماني، الخبير القانوني وعضو الجمعية المصرية للاقتصاد والتشريع، حلم الثراء السريع هو الدافع لارتكاب معظم الجرائم الجنائية؛ ولهذا نجد خصيصا مجال الاتجار بالآثار من أهم مجالات دافع الثراء السريع؛ لاسيما وأن هناك مافيا عالمية تدفع مليارات الدولارات من أجل الاستيلاء على آثار الدول في كافة بقاع العالم.
وأما عن الواقع القضائي المصري، حسب القرماني، فهو شاهد علي قضايا كثيرة تتعلق بالنصب بمسمى "الاتجار في الآثار"؛ حيث يقوم الجاني بإيهام حالمي الثراء السريع بوجود قطع ومقابر أثرية وبالفعل يدفع عربون للمعاينة وفي هذه الحالة يوجد واقعين، أما أن تكون هناك آثار مزيفة عاينها المشتري أو يستولي على العربون دون تمكين الشخص المشتري من المعاينة، وأذكر في إحدى القضايا أنه عند تسليم القطع الأثرية للمشتري كان في انتظارهم شريطة مزيفة ليهرب المشتري ويترك أمواله للعصابة حتى يفلت من العقاب وكلها قصص وحكايات مفبركة يشهدها أحلام الثراء السريع.
وقائع دولية مشابهة
وهناك وقائع عالمية مشابهة، لواقعة المقبرة المصرية المزيفة، أبرزها التي وقعت في مايو من عام 2020 حينما أعلن المتحف البريطاني عن شحنة من القطع الأثرية المزيفة التي يصعب تفريقها عن الحقيقية، وعثرت عليها سلطات الحدود في مطار هيثرو الدولي داخل صندوقين معدنيين تم شحنهما من البحرين إلى المملكة المتحدة.
كانت الشحنة تتكون من 190 قطعة منسوبة لحضارة بلاد ما بين النهرين، ومن المفترض أنها تعود لـ 2500 سنة قبل الميلاد، و ضمت مجموعة كاملة من الألواح المسمارية المعروفة.
وعلق المتحف البريطاني على الواقعة وقتها ببيان: ظهر الأمر كما لو أن نوع كتابات بلاد ما بين النهرين القديمة تم تمثيلها كاملة في شحنة واحدة، أي مجموعة كاملة جاهزة لمشتر غير مطلع، لكن سرعان ما اتضح أن هناك مشكلة، إذ لم تكن أي من القطع قديمة حقاً".
وأما في أغسطس 2021 كشف مكتب المدعي العام في مانهاتن بنيويورك أن تمثالاً منسوباً للحضارة الآشورية تم عرضه في أحد معارض نيويورك للقطع الفنية، وبيع التمثال المزور ضمن مجموعة أخرى من القطع المزورة.
وتبين من التحقيقات أنه تم العثور على آلاف القطع الأثرية المزيفة في الغرف الخلفية للمعرض جنباً إلى جنب مع أدوات تستخدم في تصميمها لتبدو كأنها قضت آلاف السنين تحت الأرض، وقد تم القبض على مالك المعرض، الذي تبين أنه واحد من أكبر بائعي الآثار المزورة في أميركا.
وثبت أن صادق أدار معرضه لعقود من الزمان، وأعلن عنه على موقعه على شبكة الإنترنت بصفته، "معرضا فنيا مملوكا لأسرة متخصصة في القطع الأثرية والقطع النقدية القديمة من مختلف أنحاء العالم".
تفسير الطب النفسي
يفسّر الدكتور جمال فرويز، استشاري الطب النفسي، من الناحية النفسية الأشخاص الذين يطاردهم حلم الثراء السريع بغرض الاتجار نتيجة لإصدار بعض فتوى من أهل الدين -وهم ليسوا برجال دين - أن المال الذي يأتي من الآثار حلال وبالتالي جاء من هنا اللهث وراء حلم الثراء السريع، مؤكدًا أن مثل هؤلاء لن يتراجعوا عن هذا الحلم لرغبتهم في تحقيق أحلامهم بصورة سريعة وغير قانونية ودون بذل مجهود أو عناء.
الدكتور أحمد عامر
أشهر وسائل تهريب الآثار
يقول الخبير الأثري والمتخصص في علم المصريات الدكتور أحمد عامر، لـ" بوابة الأهرام": إن تهريب القطع الأثرية داخل حقائب الملابس من أشهر وسائل التهريب التي تم ضبطها للآثار المصرية صغيرة الحجم، خاصة العملات والجعرانات والتمائم، ونجد أن محافظة بني سويف والتي ترتفع بها البطالة، أصبح البحث عن الآثار حلمًا يراود مئات الشباب، الذين يبحثون عادة ليلاَ ولكن بأسلوب بدائي ينتج عنه كوارث وخسائر في الأرواح كـ"انهيار الحوائط أو المنازل أو الممرات والسراديب" على رؤوس القائمين على الحفر؛ مضيفًا حيث تم الكشف علي مقبرة مزيفة بالكامل ببني سويف ليس لها علاقة بالواقع الأثري على الإطلاق فالتماثيل كلها مقلدة ومصنوعة من البلاستيك.
وأضاف أن التابوت الموجود مصنوع من الفايبر، وجدران المقبرة مصنوعة من خشب الأبلكاش، بالإضافة إلي أن رسومات المقبرة لا تنتمي إلى الحضارة المصرية القديمة وأنها حديثة منذ عام تقريبا، مشددًا على ضرورة تغليظ عقوبات التنقيب عن الآثار والمتاجرة بها بحيث لا تقل عن ٢٥ عاما، بالإضافة إلي مصادرة حجم الأموال التابعة للشخص ومن يتعاون معه ومن يقوم بتمويله.
انتشار سرقات والاتجار بالآثار عقب ثورة يناير 2011
ويضيف الخبير الأثري والمتخصص في علم المصريات: بعد ثورة يناير ٢٠١١، انتشرت سرقات الآثار بسبب الطمع ومحاولات الثراء السريع؛ حيث أصبحت تجارة الآثار يتم الترويج لها من قبل الحالمين بالثراء السريع، وانتشر الحفر خلسة في معظم محافظات مصر، وكل شخص سمح لنفسه بالحفر تحت منزله لاستخراج الآثار في ظل غياب الرقابة ووجود فرص لتهريب هذه الآثار.
وتابع : و قبل عام ١٩٨٣، كان بيع الآثار أمرا مباحا ولم يكن القانون يجرّمه فكانت تُباع في خان الخليلي وغيرها من الأسواق، وعقب صدور قانون الآثار وتعديلاته تم تعديل عقوبات الاتجار في الآثار.
كما أن القوانين الدولية في بعض الأحيان تقف عائقا أمام مصر في أغلب الأوقات؛ لأنها تشترط إثبات ملكية أو مستند ملكية، والتي تستند إليها المعارض لإتمام صفقاتها.
استرداد نحو ٢٩ ألف قطعة أثرية خلال الخمس سنوات الماضية
وأشار الخبير الأثري إلى أنه في خلال الخمس سنوات الماضية تم استرداد نحو ٢٩ ألف قطعة أثرية، لكن يوجد آثار مهربة بطريقة الحفر خلسة وهذه الآثار من الصعب أن يوجد لها أرشيف، لأننا لم نكن نعلم عنها شيء، فمن الممكن أن يحفر شخص ويجد أثرًا، ذاكرًا في خلال الفترة من عام ٢٠١١ إلى عام ٢٠١٤، خسرت مصر ثلاثة مليارات دولار من سرقة القطع الأثرية من المواقع الأثرية والمتاحف وأماكن العبادة، وفقًا لمجموعة "Alliance Archaeology" ومقرها واشنطن، واستطاعت مصر استرداد ألف قطعة أثرية من ١٠ دول خلال السنوات الثلاث الماضية.
المستشار الدكتور أحمد القرماني
قانون حماية الآثار رقم ١١٧ لسنة ١٩٨٣
يوضح الدكتور أحمد القرماني، الخبير القانوني وعضو الجمعية المصرية للاقتصاد والتشريع، أن قانون حماية الآثار رقم ١١٧ لسنة ١٩٨٣ والمعدل طبقا لأخرتعديلات٢٠ لسنة ٢٠٢٢ تضمن تنظيم التعامل مع الآثار المصرية والهدف من هذا القانون حماية المقوم الثقافي لوطننا ذات الأصالة والحضارة، لافتًا وضع المشرع عدة عقوبات لكل من يتاجر في الآثار أو يتعامل علي تلك الآثار على أنها ملكية خاصة ، فالآثار المصرية من الأموال العامة، وبالتالي تشدد المشرع في تنويع العقوبات ابتداء من السجن المؤبد انتهاء إلى الحبس مدة لا تقل عن سنة، أما في وضعية تهريب الآثار المصرية خارج جمهورية مصر العربية تكون العقوبة السجن المؤبد والغرامة التي لا تقل عن مليون جنيه ولا تزيد عن عشرة ملايين جنيه مصري، فضلا عن المصادرة أي مصادرة الأثر والأدوات والآلات والسيارات المستخدمة وتكون لصالح المجلس الأعلى للآثار .
عقوبة السجن المؤبد لكل من يهرب الآثار المصرية
وذكر القرماني، أن القانون نص على عقوبة السجن المؤبد لكل من يهرب الآثار المصرية تكون عقوبة غسل الأموال الناتجة عن بيع تلك الآثار، وقد تصل العقوبة للسجن سبع سنوات، فضلا عن مصادرة تلك الأموال، أما في شأن إيهام الغير في وجود آثار نظير الاستيلاء علي أموال الغير تكون الجريمة هنا جريمة النصب وعقوبتها تصل إلى حد أقصي ٣ سنوات، موضحًا أن الاختلاف في التكيف القانوني يكون مرجعه هل الآثار مزيفة أم حقيقية؟، ولهذا تعرض القطع الأثرية المزعوم أنها من- آثار- علي لجنة من وزارة الآثار، وكليات الآثار لثبوت إن كانت تلك الآثار حقيقية أو مزيفة ويعد هذا التقرير أحد أركان الأدلة لأنه لوثبت أن الآثار المضبوطة مزيفة تكون الجريمة النصب قد توافرت أركانها.
الدكتور جمال فرويز