Close ad
6-2-2023 | 18:04

"لا تعبثوا معنا.. فنحن قادرون على الوصول إلى أعتاب منازلكم في طرفة عين"، هذه العبارة تلخص فحوى الرسالة الكامنة وراء قصة المنطاد الصيني الذي حلق في سماء الولايات المتحدة، التي حددت غرضه في التجسس عليها، وانتهاك سيادتها وأجوائها، وتوضح مدى معاناة العلاقات الأمريكية - الصينية من أوجاع وأعراض فيروس "انعدام الثقة". 

فهمت واشنطن مضمون ما بعثته بكين من خلال "غزوتها المباغتة"، وجاء ردها عليه سريعًا وقاطعًا، حيث أسقطت المنطاد، بعدما دفعت الحكومة الصينية للقيام بخطوة نادرة غير مألوفة من جهتها، تمثلت في إبداء أسفها على حدوث الواقعة غير المقصودة، إثر خروج المنطاد المخصص لأغراض مدنية تتعلق بالأحوال الجوية عن سيطرتها، ولاحقًا أنذرت إدارة "جو بايدن" بأنها تحتفظ لنفسها بحق الرد على إسقاطه، بما يفتح المجال واسعًا أمام مزيد من التوتر في علاقة البلدين السائرة على طرف سيف حاد. 

ولننح جانبًا نفي الصين تجسسها على منافسها الأكبر والأخطر أمريكا، وما ستفعله لرد اعتبارها الوطني المجروح، ولنفهم ابتداءً مبرراتها وأسبابها الضاغطة بالإقدام على تصرف معلن سيكون تحت سمع وبصر الجميع بالولايات المتحدة وخارجها - إرسال المنطاد ـ في وقت شديد الحرج والحساسية للطرفين. 

أول الأسباب وأهمها أن السلطات الصينية مستاءة وقلقة بشدة من التحركات الأمريكية الرامية لتشديد الخناق من حولها، والتحرش بها جهارًا نهارًا في محيطها الإقليمي الحيوي لأمنها القومي، ومصالحها الجيوسياسية، وآخر ما قامت به واشنطن في هذا السياق كان إبرامها اتفاقًا أمنيًا مع الفلبين يسمح للجيش الأمريكي باستخدام ٩ قواعد إستراتيجية مقابل الشواطئ الصينية وبالقرب من تايوان التي تعتبرها بكين مقاطعة متمردة على الوطن الأم ـ الصين ـ. 

وسبق ذلك اتفاقيات مماثلة مع أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية، بما يعني أن أمريكا وحلفاءها يفرضون سياجًا محكمًا حولها، ويحد من حركتها وانطلاقتها العسكرية بالمنطقة التي تشهد نزاعات بينها وبين بعض دولها على السيادة على جزر ومناطق اقتصادية حيوية، واعتادت استخدام قوتها وتفوقها العسكري على الجيران لإثبات أحقيتها في السيطرة عليها. 

وتكتمل حلقات الحصار الأمريكي بسلسلة طويلة ومحدثة من العقوبات الأمريكية الغربية على الجانب الصيني، لا سيما الشركات العاملة في قطاع التكنولوجيا والاتصالات بحرمانها من صادرات "أشباه الموصلات" التي تشكل عصب العمل بهذا القطاع، وقبل أيام قليلة أفادت تقارير عديدة بتوصل اليابان وهولندا والولايات المتحدة لاتفاق يفرض قيودًا على صادراتها من المعدات المتقدمة لتصنيع الرقائق الإلكترونية للصين. 

لجأ التنين الصيني لوسيلة تقليدية جدًا، هي المنطاد الذي يسهل اكتشافه وتدميره، على الرغم من امتلاكها وسائل أكثر تقدمًا وتعقيدًا في عصر الأقمار الصناعية للتجسس على البنية التحتية الأمريكية، أو لجمع أي معلومات ترغب فيها، ووقع اختيارها عليها لاعتبارات تخدم رسالتها لأمريكا وليست عشوائية ولا اعتباطية. 

فبكين تدرك أن المنطاد أداة غير عدائية ويحلق على ارتفاعات لا تمثل خطرًا على الملاحة الجوية المدنية، ورصده في ولاية "مونتانا" له مغزاه، لأنها تضم ترسانة الولايات المتحدة من الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، والقادر على بلوغها يستطيع الوصول لما هو أبعد ببقية الولايات المترامية الأطراف، وهدفها من البداية كان اختبار درجة التأهب العسكري الأمريكي، وإحراج إدارة "بايدن"، وجرح الكبرياء والغطرسة الأمريكية، وتوجيه صفعة لها تجعلها تتريث في اتخاذ خطوات جديدة لحصارها عسكريًا واقتصاديًا، وإثبات أنها لا تود انتقال ما بينهما من منافسة مشروعة بين القوى الكبرى إلى صراع مرير يخسر فيه الجانبان الكثير من المقدرات والأوراق، ولن يخرج منه منتصر ومهزوم، بل إن الهزيمة ستكون من نصيب وحظ الجانبين المتصارعين. 

وبالمنطق السياسي فإن الصين بإرسالها المنطاد "الشقي" تسخن المناخ لمستوى يجعلهما يعودان لطاولة المفاوضات الرحبة، لتسوية خلافاتهما الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية بما يُحافظ على مصالحهما ولا يلحق بها أضرارًا فادحة، لكي يتمكنا من إعادة بناء اقتصادهما بحقبة ما بعد كورونا، وإيقاف حملات التشويه المتبادلة، خصوصًا من ناحية أمريكا ووسائل إعلامها التي تسعى لإظهار الصين في صورة "الشيطان الأكبر"، وهو ما يمارسه أيضًا الإعلام الصيني. 

وتشير تطورات الأحداث الأخيرة إلى مسألة جديرة ببحثها وتحليلها، هي حجم العدائية والريبة تجاه الصين بين أوساط النخبة السياسية الأمريكية، وأن هناك تخبطًا بالدوائر السياسية الأمريكية والصينية بشأن كيفية إدارة ملف العلاقات الثنائية، وتنقيتها من الشوائب والمخلفات العالقة به، ولا تقتصر فاتورتها الواجب دفعها على البلدين وحدهما، لكنها تتسع لتشمل العالم بأسره بحكم أن المتنافسين قوتان عظميان يحاول كل منهما إزاحة الآخر من طريقه، والانفراد بالهيمنة العسكرية والجيوسياسية والاقتصادية والتكنولوجية، وأن يكتفي مَنْ تحت القوة المتفردة باتباع ما تقرره في هدوء تام بدون ضجيج ولا إزعاج.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
دائرة الانتقام

بحكم تركيبته ونزعته الدموية والفاشية ألقى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نيتانياهو، بإسرائيل داخل دائرة الانتقام الجهنمية، ظنا منه أن سفكه مزيدًا من دماء