تحوي القطارات في ترحالها بين الوجهين البحري والقبلي العديد من الذكريات والحكايات التي صارت تاريخًا لمصر منذ أن أنطلق القطار في أول رحلة له على أرض المحروسة منذ منتصف القرن التاسع عشر.
ويأخذنا الزميل محمود الدسوقي، الصحفي في بوابة الأهرام لرحلة إلى عالم القطار، فأخذنا مقاعدنا بين المسافرين عبر الزمان من خلال كتابه "قطار النيل ـ حكايات الإنسان والآلة" الذي صدرت الطبعة الثانية من عن دار نشر الدار المصرية السودانية الإماراتية.
وقد تناول المؤلف سير القطارات في حقبة زمنية تمتد من عام 1856 حتى الحرب العالمية الثانية، وحكايات الإنسان مع القطار في نشأته الأولى في مصر، وغلاف الكتاب من تصميم الزميل الصحفي بالأهرام نادر حبيب، حمل صورة القطار القديم.
ويأخذنا الزميل محمود الدسوقي في رحلة لتاريخ القطار المصري بلد النيل والمواويل بعيداً عن أشعار الشعراء، والأغاني الشعبية المصرية "يا وابور الساعة 12" وغيرها في تتابع زمني من نهايات القرن التاسع عشر حتى منتصف أربعينيات القرن الماضي، بل يأخذنا في رحلة لهدم الصورة الذهنية التي توردها لنا الصور الفوتوغرافية ولقطات السينما بأن وابورات مصر كانت نظيفة وسريعة، فالقطار الذي كان يتم تأجيره للأجانب مُختلفا عن قطار يقل المصريين الغلابة فقد كان ذو شبابيك متهالكة، بحيث قد تتسبب عبور الماشية على قلبه وإيقاع الضحايا والمصابين، وكان سقوط جوال قطن يوقف الحركة تماما.
قطار كلاسيكي قديميقول محمود الدسوقي في مقدمة كتابه:"تردد الإنجليز في منح ترخيص بمد سكة حديد يقودها ستيفنسن، الذي كان عليه أن يمتثل أمام البرلمان بعد الاتهامات المغرضة التى واجهته بأنه أحمق ومجنون، أشار عليه محاميه ألا يتهور، ويذكر أمام أعضاء البرلمان سرعة لا يمكن تصديقها، وهى سرعة 20 ميلا في الساعة؛ لأنه إذا فعل ذلك حكم المجلس عليه بالسجن وحسبوه مجنونا أفلت من المستشفى؛ لذا كان على استيفنسن لجم خياله ولسانه، واكتفى بذكر 12 ميلا في الساعة، ومع ذلك ظل أعضاء اللجنة في البرلمان يشككون في صحة عقله، بل واقترعوا ضد اقتراح ، إلا إنه عام 1821م تمت مباراة لسرعة السكة الحديد، عينت لها جائزة، فكانت قاطرة ستيفنسن تجر وراءها قطارا من العربات المشجونة، وبلغ سرعتها 15 ميلا في الساعة، وقام ستيفنسن بفصل القاطرة من القطار فبلغت سرعتها 35 ميلا في الساعة، فوقف الناس في استغراب، حيث لم تتحطم العربة وكذلك قلب استيفنسن لم يتوقف عن النبض، مثلما قيل لهم".
كتاب قطار النيل لمحمود الدسوقيومنذ ظهور القطار وهو يشغل الجميع، صار معجزة على الألسن حين شاهدوه أول مرة لكتاب يتناول أفعال السخرة حيث انساق آلاف المصريين من وجه قبلي وبحري لمد خطوط السكة الحديد، وكيف أن المحتل الإنجليزي والقوى الأوروبية فرضت إتاوة على المصريين يد فعونها في وطنهم خاصة قطارات قنا بالصعيد ومحافظات القناة للشركات الفرنسية والإنجليزية معا، وقد كان من المفترض أن تقوم مصر بدفع ملايين الجنيهات حتى عام 1968م حتى قامت ثورة 23 يوليو عام 1952م فقامت بتأميم قناة السويس، فأنهت هذا العبث بمقدرات مصر.
ويتناول الكتاب تحذير أهل الشام سوريا ولبنان من مد خطوط سكك الحجاز والوقوع في فخ الاحتلال العثمانلي، وكيف أن مصر أخذت هذا التحذير على محمل الجد، وكيف كان القطار المصري سابقا للقطار التركي الذي كان عليه في زياراته لمصر أن ينظر له بعين الإعجاب والدهشة والغيرة والطمع والحقد أيضا.
كتاب قطار النيل لمحمود الدسوقي وأخذنا الدسوقي لقضبان ولى النعم محمد على باشا، ليذهب لتاريخ القضبان وأنواعها، وكذلك القطارات وأنواعها وكيف كانت تتوقف لتعبئتها بالمياه، حيث كانت تعمل بالفحم، ثم أخذنا لعصر عباس الأول وأول فراش مصري يعمل في القطار ، ثم قطار سعيد الحزين ذلك الشاب الذي مات صغيرا وكان عنده حلم مصري، ثم القطارات الخديوية أيام إسماعيل باشا، ثم انكسار الثورة العربية وقيام أحمد عرابي ببناء كوبري في ملوي وسيطرة الأجانب ونضال المصريين، ثم تناول الكتاب خطوط وقواعد السير، وتاريخ التذكرة وخطوط الضواحي والصعيد، بجانب أنه عرّج على قصص شهيرة في التنافس بين القطارات والسيارات أثناء الحرب العالمية الثانية، ثم سرد قصص لشعراء وقعوا في هوى القطار كحافظ إبراهيم، وشعراء وقعوا في هوى السيارة كأمير الشعراء أحمد، وشخصيات شعبية كانت لها وقائع مع القطار، ومذكرات لمهندسين في السكة الحديد المصرية، وقد اعتمد المؤلف على مجلة السكة الحديد ودليل المتحف وقوانين الوقائع، بالإضافة لأرشيف الصحف، وما تركه المهندسون المصريون من تراث مجهول عن عالم الحركة، كما عرّج المؤلف إلى إشاعات ظهور القطار التي جعلت الفراعنة يعرفون القطار قبل الإنجليز، وتحذير الصحف من هذه الخرافة .
كتاب قطار النيل لمحمود الدسوقي