عطفًا على المقال السابق؛ المعنون بـ"قُدور الرجاء"؛ نستكمل اليوم حديثنا تحت عنوان مقادير العطاء؛ والعطاء إذا كان من الله فلا حدود له؛ فلا أول له ولا آخر؛ سبحانه وتعالى؛ أما العطاء المرتبط بمخلوق فمن المؤكد أنه محدود بحدوده؛ ومن ثم فهو له قدر ما، وكذلك له قدرة.
في المقال السابق؛ ذكرت قصة عايشتها لرجل صابر تمام الصبر، وراضٍ رضا كامل بما كتبه الله له من ابتلاء أصاب ابنته الوحيدة؛ فحمد الله على ذلك الابتلاء؛ وقرر رعاية نجلته المصابة بذلك المرض الصعب الذي يحتاج لرعاية تامة على مدار الساعة.
وبت في حيرة من أمري؛ لماذا أُصيب هذا الرجل وأمثاله من ابتلاء بهذا النوع الذي يحتاج إلى جلد وعزيمة في التقبل والرضا ومعايشة تبعاته بنفس راضية؟
ولماذا الآخرون خلاف ذلك؟
فهداني تفكيري لنظرية قد تكون مقبولة من البعض؛ أنه على قدر الرجاء يأتي العطاء؛ فإذا كنت ترجو من الله أمرًا بقدر رجائك منه؛ بقدر العطاء الذي يجزله لك.
كيف؟
إذا كنت تريد النجاح؛ بقدر جهدك بقدر حصولك على درجة النجاح المناسبة لذلك الجهد؛ هذا مثال توضيحي؛ فأيضًا بقدر رجائك من الله وإخلاصك في الرجاء بقدر العطاء المجازي.
فلنبدأ بالمثل المخيف؛ تسرق وتقتل وتزني وتفعل من الموبقات ما لا حصر له؛ فماذا سيكون رجاؤك في الآخرة؟
لا خلاف على أنه النار؛ وهنا بقدر اجتهادك في المعاصي؛ بقدر عطاء متوقع لك؛ بدخولك منزلة من النار مناسبة لك؛ ودرجات النار متعددة؛ لكل عاصٍ منزلته بقدر معصيته لله.
وهل هناك اجتهاد في المعاصي؟
نعم؟ وإلا بما نفسر استمرار المعصية ودوامها؛ دون توقف.
وفي المقابل، هناك اجتهاد تارة يكون مضنيًا ومُجهدًا للغاية صوب فعل ما يرضي الله ابتغاء مرضاته؛ وتارة يكون بسيطًا بحكم العادة؛ فنجد سعيًا لفعل الخيرات دون توقف؛ والخيرات هنا ليس المقصود بها؛ الإنفاق بالمال؛ بل إن هناك أوجه كثيرة للخيرات منها المعاونة على فعل الخير؛ كتوجيه النصح المخلص والإرشاد السليم الصحيح.
إن الحياة ليست للعب واللهو؛ وإنما للعمل والعبادة؛ فيقول الله "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" سورة الذاريات الآية 56، فكل عمل عليه أجر إن كان خيرًا كان رجاءً إلى الجنة؛ وإن كان شرًا؛ كان رجاءً إلى النار.
نموذج الأب المحتسب أمره لله الصابر على الابتلاء؛ مازال يسكن مخيلتي - وأشك أن يتركها - نموذج ملئ بالعبر؛ فهذا الصابر المحتسب، رزقه الله بصابرة محتسبة أمرها لله؛ وسبحان الله تملك أجمل ابتسامة رأتها عيناي؛ واجتمع الاثنان على طاعة الله؛ وبلا شك فالرجاء هنا الجنة، فماذا سيكون العطاء؛ وما هو قدره.
إن في الجنة ما لا عين رأت؛ ولا خطر على قلب بشر؛ وبحسبة تخيلية؛ نفترض أن عدد البشر منذ أن خلق الله سيدنا آدم عليه السلام؛ وحتى قيام الساعة؛ يصل لمئات المليارات من البشر؛ كل هذا العدد وأكثر؛ ومع تخيل أيٍ منهم لشكل الجنة؛ وزد في الإفراط في جمالها.
فيها ما لم يخطر على قلب بشر؛ أي أفضل وأجمل وأحلى بمراحل.
لذلك رجاء الجنة أصعب كثيرًا جدًا جدًا من رجاء النار؛ وبالتالي عطاء الجنة أقيم من عطاء النار.
مقادير العطاء لا حدود لها؛ وما خلقك الله هكذا دون سبب؛ ولكن لتعبده كما يجب؛ فالأمر مرهون برجائك؛ وسعيك له.
،،، والله من وراء القصد
[email protected]