.. لو كان هناك فوائد للأزمات تذكر، فإن أولها هو تعلم البحث عن حلول، والتنقيب عن أفكار جديدة، والاستفادة من دروسها التي غالبًا ما تكون قاسية؛ بل تضع الحكومات في موقع المراجعة للسياسات، وإعادة النظر في كثير من القرارات، وتلمس جذور المشكلات.. والأزمة الاقتصادية التي تمر بها مصر كاشفة للعديد من السياسات التي يجب اتخاذها حتى نتجاوز تداعياتها والتعامل مع آثارها المجتمعية، وقد أحسنت الحكومة حين أعلنت عن مبادرة لتمويل ميسر لقطاعي الصناعة والزراعة، وهو ما يشير إلى أن الدولة ستعطي هذين القطاعين أولوية خلال المرحلة المقبلة، وهو بالتأكيد توجه محمود، وإن كان قد جاء متأخرًا، إذ إن بؤرة الأزمة الاقتصادية تكمن في النقص الحاد في موارد النقد الأجنبي، بالقدر الذي لا يتناسب مع حجم الإنفاق الكبير على مشروع نهضوي شامل وواعد في البلاد.. وبما أن تقدم الدول يقاس بحجم ما تنتجه وتصدره، فإن مصر تعاني من ضعف إنتاجي صالح للتصدير، أو قادر على جلب النقد الأجنبي المناسب؛ لمواجهة متطلبات مجتمع يزيد بمعدل مليوني نسمة سنويًا، ويعتمد في جانب كبير من غذائه على الاستيراد.
وهنا أشير إلي بعض المقترحات من واقع تجربة عملية عشتها واطلعت عليها خلال زيارات عمل إلى عدة دول حققت نجاحات اقتصادية كبيرة؛ بل بعضها الآن في قائمة الدول الصناعية السبع؛ وهي تجربة "المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر"، والتي حققت نجاحًا في دول مثل كندا والهند وإندونيسيا، وإيطاليا، فقد أكدت الدراسات الاقتصادية أن قطاع المشروعات الصغيرة هو الأكثر قدرة والأسرع على توليد فرص عمل للشباب بنسبة 75% من القوى العاملة المتاحة في سوق العمل، كما أنه الأسرع في الإنتاج والتصدير وتحقيق العائد، فلو أن هناك تمويلًا جاهزًا وميسرًا يمكن اليوم تأسيس مشروع صغير في أيام أو شهور قليلة؛ بينما في حالة المشروعات الكبيرة قد يستغرق 5 سنوات أو يزيد.
هناك منظومة واضحة ومحددة لقيام قطاع للمشروعات الصغيرة تحقق أرقامًا تصديرية، وتجلب موارد كبيرة للنقد الأجنبي إذا ما أُحسن التخطيط والتنفيذ والمتابعة، قد كانت هناك في مصر تجارب محدودة للمشروعات الصغيرة، إلا أنها لم تكتمل لغياب التخطيط والتنفيذ المدروس، وأذكر تجربة الصندوق الاجتماعي لتمويل المشروعات الصغيرة؛ الذي ما لبث يعمل حتى جنح برسالته وأهدافه بعيدًا عن مشروعات الشباب؛ التي أُسس من أجل تمويلها؛ حتى إن معظمها تعثر؛ بل وأودع أصحابها السجن.
إقامة قطاع قوي للمشروعات الصغيرة في مصر، ومن واقع اطلاعي على تجربة ناجحة في كندا تقوم من خلالها بتصدير 400 مليار دولار، وكذا في إندونيسيا يتطلب ما يلي:
أولًا : إنشاء مركز أعمال يتولى تقديم خدمات التدريب لشباب الأعمال في مجالات التسويق والشئون الإدارية والمحاسبية، وإعداد دراسات الجدوى، وكذا القيام بمتابعة المشروعات، وتقديم المشورة لهم، بالإضافة إلى الخدمات اللوجستية الأخرى التي يحتاجها صاحب المشروع؛ مثل المشاركة في المعارض وخدمات الجودة والتعبئة والتغليف وغيرها.
ثانيًا : تأسيس بنك متخصص في تمويل المشروعات الصغيرة بشروط ميسرة - قد تصل إلى صفر فائدة في بعض المشروعات - مع تبسيط إجراءات الائتمان بشكل تدريجي كلما كان المشروع ناجحًا، والملاءة المالية قوية، ويقدم البنك خدمات أكثر مرونة، قد تصل إلى حصول العميل على قرض بالإيميل.
ثالثًا : تأسيس شركة لتسويق منتجات الشباب إذ تتولى هذه الشركة القيام بجمع المنتجات وتصديرها للأسواق؛ وهي خدمة أساسية، بل ومحورية في نجاح التجربة برمتها فالإنتاج بلا تصدير يعني موت المشروع، كما أن قدرة شباب المنتجين المالية غالبًا ما تكون ضعيفة ولا تمكنهم من السفر والقيام برحلة ترويجية مكلفة تزيد من عبء الإنتاج، ولا تحقق السعر التنافسي في السوق، كما أن الشركة لها دور آخر؛ وهو أنه في إمكانها توزيع طلبيات على المصانع الصغيرة لإنتاجها وتوريدها للشركة لتصديرها، ومن هنا تتحقق ضمانة البيع بعد الإنتاج بالنسبة لصغار المنتجين، وبعد سنوات يكبر الصغير ويتحول إلى مصنع كبير، ويحل مكانه مشروع صغير آخر، وهكذا تكتمل المنظومة في قطاع مولد لفرص العمل، ولديه القدرة على الإنتاج والتصدير.
وفي تقديري أن هذا القطاع يحتاج إلى إستراتيجية قومية تتبناها الحكومة بأقصى سرعة، فالوقت ليس في صالحنا، والأزمة تحتاج إلى حلول ناجزة وعاجلة، وأحسب أن محاور هذه الإستراتيجية تتمثل في حصر الموارد والفرص المتاحة في كل محافظة، وتشجيع صغار المستثمرين على تأسيس مشروعات صغيرة وفق المنظومة الخدمية التي أشرت إليها؛ أي من خلال مركز أعمال، وبنك للتمويل الميسر، وشركة تسويق، ففي المحافظات الزراعية أو الصحراوية يتم إتاحة الأرض بمبدأ "الأرض لمن يزرع" بحيث يقوم الزراع بتنمية الأرض وزراعتها بمنتجات مطلوبة للسوق المحلي أو الخارجي، وبعد نجاحه تقوم الدولة بتحصيل حقها، وفي المحافظات التجارية أو الصناعية - أو غير ذلك - تتاح الفرصة لتمويل مشروعات صغيرة وفق الموارد المتاحة، ويتولي كل محافظ تقديم كل التيسيرات والخدمات اللازمة لإنجاح التجربة.
لا بديل عن حل المشروعات الصغيرة في التعامل مع الأزمة الاقتصادية في مصر؛ بل لا أبالغ إذا قلت إن نشر ثقافة المشروعات الصغيرة في مصر سيكون الحل السحري لمشكلات هذا البلد لأجيال مقبلة، فمصر لديها إمكانات كبيرة وموارد بشرية وطبيعية كثيرة، واستغلالها الأمثل الذي يجلب الخير ويضع حلولًا واقعية لأزمات تؤرق المجتمع، لا بد أن يمر من خلال المشروعات الصغيرة، التي نستطيع من خلالها بناء قاعدة إنتاجية قوية ومستدامة، وقوة تصديرية ضخمة يدعمها موقع مصر بين أسواق عربية وإفريقية تحتاج إلى منتجات هذا القطاع بلا حدود ودون قيود، فقط توفير منظومة مؤسسية توفر حاضنة للمشروعات الصغيرة.
إنه مسار بديل ربما يجد من يتخذه سبيلا
[email protected]