التنمية المستدامة فلسفة حياة

29-1-2023 | 10:59

عرفت الأمم من خلال وثيقة مستقبلنا المشترك عام 1987 مفهوم التنمية المستدامة بأنها التنمية التي تحقق وتفي بضروريات الأجيال الحالية دون أن تخل بالاحتياجات الضرورية للأجيال القادمة، وهي تعتمد على رؤية منظومية شاملة على المدى البعيد بمعنى أنها تسعى لمكاسب اقتصادية وإنسانية وبيئية واجتماعية ومجتمعية وعالمية تستمر للأجيال الحالية والقادمة معًا، فلا يستأثر جيل أو جماعة أو بلد بمنافع تسبب ضررًا للآخرين أو على المدى البعيد.

ورغم نشر التنمية المستدامة من خلال أكبر منظمة عالمية إلا أن معظم دول العالم خاصة الدول الكبرى تغافلت عنها في سياساتها الباحثة عن المكسب المادي قصير الأجل؛ وهذا هو السبب الرئيسي في تفاقم مشكلات البيئة والتغيرات المناخية، والتنمية المستدامة ليست مجرد اقتصاد وسياسات للدول؛ لأن المفهوم والفلسفة القائمة عليها ترتبط بجميع المستويات؛ فهي تعني فلسفة حياة للفرد والجماعة والمجتمع، بل وللعالم.

فعلى كل إنسان أن يسعى في كل تصرفاته للخير والمكسب الذي لا يضر أحدًا الآن أو مستقبلا؛ فقد ورد عن عائشة رضي الله عنها: (أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ سُئِلَ أَيُّ العَمَلِ أَحَبُّ إلى اللهِ؟ قالَ: أَدْوَمُهُ وإنْ قَلَّ)؛ وهذا يشمل كل مجالات الحياة؛ سواء الاقتصاد أو الزراعة أو الصناعة أو الطاقة أو التجارة.. وخلافه، وأيضًا يشمل كل المستويات بداية من الفرد فعليه أن يسعى إلى الاستدامة؛ سواء في الحفاظ على صحته وعلاجه؛ فلا يأخذ منشطات أو علاجًا سريعًا تتفاقم بعده المشكلة، وينطبق أيضًا على التعليم الذي يهتم بالمستقبل والرياضة والعمل والمكسب والمسكن؛ ومثال بسيط على ذلك فإن وزن الإنسان يجب عدم الاستهانة بزيادة 2 كيلو سنويًا؛ لأننا إذا نظرنا إلى هذه الزيادة بعد عشر سنوات، واستمر معدل الزيادة، ستصل إلى نحو 20 كيلو؛ مما يمثل لنا مشكلة على المدى البعيد، فهي فلسفة حياة تشمل كافة المجالات، وكافة المستويات؛ بداية من الفرد ثم الأسرة التي يجب أن تهتم بمسكن مناسب لاحتياجات ومتطلبات المستقبل، وكذألك في تعليم الأولاد والمحافظة على صحتهم، والرياضة المستدامة والاستثمار المفيد على المدى البعيد، ثم تمتد هذه الفلسفة لكافة قطاعات العمل المختلفة؛ سواء تجارة أو زراعة أو صناعة وغيرها من مجالات العمل، ثم تمتد إلى المجال الصحي والمعماري؛ حيث تنتشر الآن المدن المستدامة.

ثم تمتد فلسفة التنمية المستدامة لسياسات الدول كافة؛ وهي فلسفة مستمدة من الطبيعة والفطرة السليمة، وقد طبقها سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه في موقف فريد من أعظم المواقف في التاريخ الإنساني؛ حينما كان أميرًا للمؤمنين والحاكم، وفتح الله عليه بأراضي مصر والشام والعراق وفارس (أي إيران)؛ ويلاحظ أنها أراضي خير وزراعة ومكسب أو ثروة دائمة ومستمرة؛ وخاصة في هذا الزمان، وقد تكون أكبر ثروة في التاريخ توافرت لأي حاكم؛ ماذا فعل الفاروق أمام هذه الثروة التاريخية، وكان العرف أن يوزع على الجند خمس هذه المكاسب أو الغنائم بمفهوم تاريخها وعصرها، ولكن الفاروق وقف أمام قيادات جيشه، المنتصر انتصارات تاريخية، وقال لهم لن أعطيكم خمس هذه الأراضي؛ فاندهش الجنود وقالوا لماذا يا أمير المؤمنين؟ فكان رده لو أعطيتكم كل هذه الثروات ماذا نترك لأولادنا وأحفادنا؟! وبعد النقاش تم الاتفاق على مجلس للتشاور، وفعلا انعقد المجلس ووافق الجميع على رأي سيدنا عمر؛ لأنه يمثل المصلحة العامة للجميع، وهذا الموقف يمثل بوضوح فلسفة التنمية المستدامة؛ فقد سن سيدنا عمر بن الخطاب  "رضي الله عنه" سنة جديدة، وهو لا يعاني من أي مشاكل أو أزمات؛ ولكنه ينظر لمستقبل الأمة وحقوق الأجيال المقبلة، وعرض نفسه لاتهامات عديدة مثل الخروج عن كل من سبقه؛ ولكنها المصلحة العامة والرؤية الإنسانية الشاملة، رحم الله ابن الخطاب، ووفق الإنسانية لما فيه الخير والصالح العام.

كلمات البحث