إنه مشهد يصعب أن يتم وصفه؛ من فرط جماله وروعته؛ لا توجد حروف تكتبه؛ لأنه يفوق حدود الوصف بكل درجاته.
توقف مترو الأنفاق في محطة السيدة زينب؛ ليركب شخص بسيط في هندامه؛ يحمل فوق جسده الضعيف طفلة يبدو من هيئتها أن عمرها في حدود السنوات العشر.
ضعف جسد الرجل كان لافتًا تمامًا للنظر؛ لاسيما أنه ليس من الواضح سبب حمله للطفلة؛ هل هو فرط الحب والتدليل؛ أم أنه أمر آخر ولكنه خفي على المحيطين.
ليس من عادتي التطفل على الناس؛ ولكن المشهد أجبرني على متابعته بهدوء؛ حيث قام أحد الجالسين وأجلس الرجل مكانه؛ وكانت الجلسة بجواري؛ فبعد أن هدأ الرجل؛ سمعته يقول لنجلته "إن الله كريم؛ فلا تخافي" فنظرت البنت إليه نظرة رضا وسرور لم أعتقد أني قد شهدت مثلها من قبل؛ قد تكون الأجمل على مدار عمري.
الفتاة لا تتحرك على الإطلاق؛ وتنظر لأبيها بتقدير مبهر؛ تلك النظرة جعلتني أتدخل لأسأله؛ ما بها هذه الجميلة؛ فقال إنها مريضة؛ بمرض يجعلها لا تتحرك؛ وهي وحيدتي؛ كانت زوجتي رحمة الله عليها تعينني على رعايتها؛ حتى توفاها الله منذ بضعة شهور؛ ووجدتني مسئولًا عنها بالكامل.
وقتها بكيت بكاء مريرًا؛ فقد شعرت بالعجز لأول مرة؛ كيف لي أن أرعاها؛ حتى استيقظت من نومها؛ ووجدتها تنظر إلي ببشاشة لم أعهدها منذ زمن بعيد؛ وهي تقول إن الله كريم فلا تخاف، وكأن يد الله سبحانه وتعالى ربتت على صدري؛ هدوء وسكينة غاية في الروعة؛ لاسيما؛ بعد أن قالت إنها حلمت بوالدتها؛ وهي تحكي لها عن جنة الله وروعتها؛ وتقول لها إن لها مكانًا أروع من مكانها؛ لا حدود لجماله عوضًا من الله عن صبرها؛ وأنها شهدت أيضًا مكان والدها في الجنة؛ وطلبت منها أن تبشره بها.
يقول الرجل؛ إنه بعد حديث نجلته؛ لم يبكِ مرة أخرى؛ واستشعر طاقة لم يستشعرها من قبل؛ كأنما امتلك الدنيا وما فيها.
يقول قبل وفاة زوجتي فوضنا أنا وهي الأمر لله؛ وقررنا أن نعيش من أجل الفتاة؛ بعد أن سكننا يقين أنها أجمل اختبار لنا من الله؛ وأنها "الفتاة" هي بوابة الولوج للجنة.
حتى أنني قبل وفاة زوجتي كنت أعمل عملاً بسيطًا يدر دخلاً معقولاً يكفيني جميعًا؛ بعد وفاة الزوجة؛ لا سبيل للعمل؛ فنجلتي تحتاج لمن يجلس بجانبها طوال الوقت؛ وذلك يعني ترك العمل؛ ومن لطف الله أن صاحب العمل قرر إعطائي الراتب كل شهر؛ دون توقف؛ وأقسم على ذلك؛ وقال لي إن هذا حق الله عليه؛ وإنه قد فتح سبيلاً من خلالك لأعطيه لله؛ بل قال إنه يتمنى أن يقبله الله منه.
الصدفة الجميلة جعلت الرجل ينزل من المترو في نفس محطتي؛ فأستاذنته أن أوصله لأي مكان يريد؛ وظل يرفض وأنا أُلح عليه؛ حتى وافق؛ وكان ذاهبًا لطبيب متخصص في حالتها.
ونحن في الطريق توقفت لأُعطي للجميلة شيئًا تتذكرني به؛ فتقبلته بنظرة رضا جميلة، المدهش أنني عرضت على الرجل مالاً فرفض بشدة وإصرار عنيف؛ وقال إن الله يرزقه من حيث لا يحتسب؛ ولكنه عندما علم بمهنتي؛ طلب أن أروي حكايته للناس؛ وأن يعلن أنه يعيش تجربة إنسانية فريدة بكل ثناياها؛ يحمد فيها الله سبحانه؛ ويقول إنه في كل لحظة يرى عظمة الله في رعايته له ولابنته؛ ودون ذلك ما استطاع أن يحيى.
عزيزي القارئ؛ إذا كنت تسير على قدميك فقط فهذه نعمة من أجمل النعم؛ وإن كنت تمتلك ما لا تملكه هذه الفتاة الجميلة الراضية؛ فأنت عندك نعم لا حصر لها.
،، في المقال المقبل نستكمل حديثنا
[email protected]