الصعيد.. صناعة الشجن والجمال

17-1-2023 | 18:42
الصعيد صناعة الشجن والجمالأرشيفية
مصطفى عبادة
الأهرام العربي نقلاً عن

يطالبوننا دائما بالموضوعية، كن موضوعيا وأنت تكتب، وأنت تتكلم، فكيف نكون موضوعيين مع ذاتنا، مع أرواحنا المقدودة من الرضا، وأجسادنا التى يحمل جلدها الجبل والسهل، أرضنا وجبالنا مكمن الخطورة، وسفينة النجاة، يهرب إلينا الخائفون، ويستجير بنا من تكالبت عليه المحن، ومع ذلك ترانا نصبح عواصف ورعدا وبرقا على من يستهين بنا، نصبر كثيرا، وننسى كثيرا نتسامح مرة وعشرا، وفى لحظة يصبح المخطئ فينا أثرا بعد عين، كأن لم يكن هنا يوما، نعرف من يتجاهلنا ونتجاهله، ونمتن لمن يمد إلينا يدا، تجاهلنا حكام كثيرون، مروا فى ذاكرتنا، مرور يوم حار، مرور موجة قائظة وانتهوا، لكننا الآن فى بؤرة الضوء، نشعر بأن هناك خيطا يربطنا بوطننا، خيطا من محبة متينة، زرعها الرئيس عبد الفتاح السيسى، ففى كل عام هناك جولة من التنمية، فى كل عام هناك محافظة تدب فى أوصالها الحياة، تكون نقطة إضافة لوطن ينمو ويتسع، مرة أسيوط، وأخرى سوهاج. الصعيد الذى لو زاره سابقا أى رئيس تكون مرة يتيمة ولا تتكرر، أصبح الآن قبلة ومحجا للقيادة السياسية، تضعه فى أولوياتها، مدن جديدة، ومصانع جديدة، وروح جديدة، والصعيدى لا ينسى المحبة، ولا ينكر خطوة زائر أبدا.

موضوعات مقترحة

الصعيدى مصاب بالغيرية، وهى سمة نفسية يعرفها الأرقاء من الناس، ينفعل مع الحزين، ويتبنى حزنه، يبكى معه لو بكى، ويفرح مع الفرحان، ويفرح له، إنه الحلو المر فى مفهوم علم التنمية البشرية، الحلو الذى يتأثر بالموسيقى والفن، والمر الذى يبكى مع مشهد حزين، فى فيلم أو مسلسل، الحلو - المر، لأن طعام الفقير فيه، فى زمن قريب كان العسل والمش، وأحيانا هما قوام وجبة واحدة، الحلو الذى يحتفظ بقطعة اللحم لآخر الطعام، لأنه يراها فاكهة الغذاء، والمر الذى يصبر على أقسى الظروف، الصعيدى الحلو الذى يتعامل مع الدراما التى تتناول حياته بسخرية، لأنه يستعصى على التأطير، وتخرج أطرافه من برواز اللوحة إذا حاول أحد تنميطه، الصعيدى الحلو الذى رأى نفسه فى «حربى»، خالتى صفية والدير لبهاء طاهر، والمر الذى بكى أشواق صفية وحيرتها، أشفق عليها وتمنى لها السعادة، الحلو المتسامح، من يتعامل مع الراقصات والغوازى دون خجل أو إدانة، وهو المتحفظ أخلاقيا إلى أعمق الحدود، يذهب به الوجد حتى غياب العقل حين يستمع إلى الإنشاد وذكر النبى محمد صلى الله عليه وسلم، وهو يتمايل فى الحضرة، موالده كثيرة، لأن أولياءه أكثر، وأفراحه قليلة، وفى حزنه نبيل.

فى عام 1927، وصل الأديب يحيى حقى إلى أسيوط، عاملا فى وظيفة معاون نيابة، يحيى ذو الأصول التركية، كان قبل مجيئه إلينا غارقا فى الرومانسية، وفى خوفه من أشباح الليل، وغارقا فى ذكريات مدرسة الحقوق، كان مثاليا مفصولا عن واقعه، يبحث عن طريقة له وطريق، جاء يحيى حقى وقضى عامين فقط فى قرى وضواحى مدينة أسيوط، تلك الفترة، على قصرها، غيرته، صار واقعيا، عثر على لحنه الذى ميزه بعد ذلك على مدى الأيام، اقترب من روحه المصرية ، كما تجلى ذلك فى “البوسطجى”، وفى “قصة فى سجن”، و”أبو فروة”، يحيى ذو الأصول التركية ، أصبح منا حين أتى إلى الصعيد، عجنته الطبيعة وخبزته، خطفته القسوة وكثرة الامتحانات، شكلته الأيام على هيئتها، فى منفلوط، نزع التراب من روحه كل وشيجة تربطه بالمحتل العثمانى، وأعاده إلى هيئته الحق، إلى عمقه المصرى، والمصرية ليست جنسية، إنما هى مجموعة من القيم الإيمانية، لو توافرت فى أى أحد صار منا، فما بالك إذا خالط الصعيد، وخالطه الصعيد.

أى مناخ غير مناخ الجنوب يجمع بين الرقة فى معناها الأول، كأول يوم خلقت، وبين الصرامة إنه المناخ الذى ولد لويس عوض ونادية لطفى، المناخ الذى أطلق للدنيا طه حسين، وسناء جميل، الطبيعة التى جعلت من الكفيف طه حسين، رائد أمم وأجيال، طه الإرادة الصخرية، والذائب عشقا وحنانا، الخلطة التى صنعت أسطورته، طه الصرامة العلمية التى درست بداية الحضارة الأوروبية، كأهلها، ولم يشعر بغربة وهو يخالط أهل فرنسا، ويعشق امرأة غربية دون دونية أو استذلال.

الصعيدى الحلو، هو «أحمد سماعين وحراجى القط»، وبناء السد العالى، ملحمة المصريين وعزهم وفخرهم فى الستينيات، وهو حكمة فاطمة أبو قنديل، فى «يامنة» ومرارتها من طول الأيام، ومفارقة الأحباب، لكن دون اعتراض أو ندم: «أوعى تصدقها الدنيا غش فى غش، وده زمن يوم ما يصدق كداب، فى الدنيا وجع أشكال وألوان، أوعرها لو هاتعيش بعد عيالك ما تموت»، والصعيدى المر الذى يتعامل مع الحب على أنه قدر، والخطيئة على أنها “مقدر”، هو شفيقة وهى حمامة مذبوحة، ترقص كأنها فى النزع الأخير، أو كما عبر عنها صلاح چاهين: “وعصير العنب العنابى، نقطة ورا نقطة يا عذابى، يكشف لى حبايبى وصحابى، يوحدنى وأنا فى عز شبابى، والقلب على الحب يشابى، والحب بعيد عن أو طافو.. بانوا آيوه بانو”.

فى كل مجال، فى كل قرية، وكل نجع، وراء كل شجرة وتحت كل حجر، فى الصعيد مبدع، أو مفكر أو فنان، رواد وقادة، أوائل فى كل شىء، رفاعة الطهطاوى، مغامرة العقل المصرى فى بدايات عصر النهضة، الذى لخص فرنسا والفرنسيين أوجز الغرب فى: مظهر التقديس بذهاب دولة الفرنسيين، مفتى البعثات العلمية الأولى التى حملت على عاتقها بناء مصر الحديثة فى الطب والهندسة والتخطيط الزراعى، الذى حمل لواء أن الأصالة لا تخاصم العصر، وأن المصرى يستطيع أن يجمع بين حيوات كثيرة، رفاعة الذى تمتد جذوره إلى محمد الباقر بن على زين العابدين بن الحسين بن فاطمة الزهراء، العربى المصرى من عاش فى أوروبا كالأوروبيين، الذى أعيت أسطورته العصور.

وإذا تحدثت عن الأوائل فى كل شىء، فى كل مجال لا تنسى الشيخ على يوسف، الصحفى الصعيدى الأول، صاحب المؤيد صوت الوطينين المصريين ضد الاحتلال، المؤيد لعلى يوسف التى احتضنت كتابات مصطفى كامل، ومصطفى لطفى المنفلوطى، والإمام محمد عبده، وسعد زغلول، وحافظ عوض، ومحمد كرد على، ومحمد المويلحى، وقاسم أمين، على يوسف الصعيدى الذى تزوج الأميرة، وغيرالقوانين، الذى جعل من الصحافة مهنة الشرفاء والوطنيين، بعد أن كانت تتهم بكل نقيصة، وأنها حرفة وضيعة.

الصعيد: خط النهاية فى رحلة العائلة المقدسة، حيث استقر عيسى، وشعر بالأمن، وشع ضوؤه على الدنيا، الصعيد أسيوط، دير المحرق، وحكايات الآباء فىالصحراء، مقاومة القبائل البدوية الغائرة على مصر، وبدء عصور الشهداء، وصناعة طقس الرهبنة، الصعيد الذى اختلطت قبائله وصنعت من الفراعنة والعرب المهاجرين، والأفارقة المقيمين، فهو إفريقى فرعونى عربى، عجينة من الحضارات والثقافات والفنون، الصعيد الذى تجسد أكثر ما تجسد فى روحين كبيرين، هما عباس محمود العقاد، من أقصى الجنوب، ومحمد صديق المنشاوى من الوسط، الإرادة الحديدية وقداسة الاستقلال، والموت دون الرأى والاعتقاد، القلم النزيه والنفس المحلقة كالصقر، والعاشق السىء الحظ، والمنشاوى خيط النور والطلاوة، آية الخشوع ولحن السماء فى أسماع الأرض.

الصعيدى ليس رومانسيا، فالطبيعة تصوغه من طين الفروسية، وقسوة الظروف تلده فارسا بالفطرة وحنانه داخلى، يعجز أحيانا فى التعبير عنه، سوى بدمعة أو آهة عالية، كنصل الخنجر مضىء، ليس فى الصعيد مثلا محمد عبد المعطى الهمشرى، أو النارجلة الذابلة، وليس فينا من يقول مثله: “كانت لنا عند السياج شجيرة، ألف الغناء بظلها الزرزور، رومانسية الصعيدى هى “كمان” أمل دنقل، الذى يشبه وخز الحنين فى الروح، حنين متأمل: لماذا إذا ما تهيأت للنوم يأتى الكمان؟ فأصغى له آتيا من مكان بعيد، فتصمت همهة الريح خلف الشبابيك، نبض الوسادة فى أذنى، تتراجع دقات قلبى، وأرحل فى مدن لم أزرها، شوارعها فضة وبناياتها من خيوط الأشعة، ألقى التى واعدتنى على ضفة النهر واقفة، وعلى كتفيها يحط اليمام الغريب، ومن راحتيها يغط الحنان، رومانسية الصعيدى سفر إلى مدن جديدة، الصعيدى لا يقول: “يا فؤادى رحم الله الهوى.. كان صرحا من خيال فهوى”. الصعيدى حينما يعبر عن الفقد يقول: شجر اللمون دبلان على أرضه.

يوم الخميس الخامس من يناير، حين وقف الرئيس عبد الفتاح السيسى فى سوهاج، وخاطب المصريين قائلا: مصر الوطن العظيم الذى علم الدنيا ومن عليها كيف تصنع الحضارة والمعجزات، قادرة على كتابة التاريخ مرة أخرى، كانت تلك كلمات قائد يثق فى الأرض التى يقف عليها، ويعرف الناس الذين يخاطبهم، ذلك أن الصعيد على أعتاب مرحلة جديدة، يوضع فيها الإنسان فى القلب، وإليه تتوجه التنمية، كلمات قائد مؤمن بقدرات أهل الصعيد، وأنهم قادرون على صناعة حضارة على مقاسهم، حضارة تعلم الدنيا مرة أخرى، فبساطة وبشاشة الناس فى قرية “أم دومة” التى تناول الرئيس الإفطار فيها بين أهلها، شاهد لا يخيب على الأصالة والمروءة، كما هى شاهد على كرم الرئيس الذى يشارك أهله طعامهم.

وفاضل من يعترف للآخر بالفضل، والرئيس قال للصعايدة: “الصعايدة جدعان بجد، وأهل عزة وأهل كرم، وأهل شهامة ومروءة وزيادة شوية”.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة