في أعرافنا وأنماط تفكيرنا فإن للماضي سحره الأخاذ الذي يجذبنا إليه، كما يجتذب المغناطيس بعض المواد المعدنية، وتلتصق به بقوة، ونستهلك وقتًا ثمينًا وقيمًا في معاركه وحواشيها، وبسبب استغراقنا وانغماسنا فيها حتى النخاع نعرض وننشغل عن المستقبل وقضاياه واستحقاقاته، ونلقي به خلف أبصارنا وأسماعنا وليس أمامها كبقية خلق الله.
بحكم العادة أصبحنا نطرب لنغمة الماضي ومحاسنه ولياليه الملاح، ونستأنس بالعيش ذهنيًا ووجدانيًا في رحاب حدائقه الغناء، طلبًا للسكينة وراحة البال، وأحيانًا هربًا من الواقع المعيش، وما إن نشتم من على البعد رائحة النبش في الماضي حتى نسارع الخطى في اتجاهه، إما مشاركين فيه بحدة واندفاع، أو متفرجين ومشجعين متحمسين يتابعون بشغف بالغ الكرات المتبادلة بين الفريقين المتصارعين، ويبقى الحال هكذا لحين إشعال شرارة معركة جديدة عما جرى وحدث وصار في الأزمنة السحيقة الغابرة بحلوها ومرها، ونجاحاتها وإخفاقاتها.
ونظل ندور في حلقة مفرغة لا نحصد منها، في أغلب الأوقات، سوى شق الصف وإثارة الضغائن والأحقاد بين جنبات وقطاعات المجتمع المتناحرة، وتزداد تبعًا الرواسب والتراكمات والمسافات فيما بينها، وتشحن وتتأجج النفوس بمزيد من عوامل الفرقة والتباعد والاختلاف.
يتم ذلك لأننا لا نلتزم بمراعاة أصول وقواعد البحث في الماضي، وأولها الغرض من ورائه وعما إذا كان يستهدف التوعية واستذكار واستحضار دروسه المفيدة، تجنبًا للوقوع في ذات الأخطاء التي قادتنا لمطبات وعثرات تحملت الأجيال المتتالية فواتيرها الباهظة، أم إحداث فرقعة وجلبة تضع "النباش" تحت الأضواء الساطعة، ويتردد اسمه على ألسنة الناس في منتدياتهم وحواراتهم الجانبية، ويستحوذ على ثناء واستحسان مَن يشاركونه توجهاته وأفكاره "اللوذعية" الجبارة التي لم يسبقه إليها أحد من العالمين؟
إن كان المستهدف البعد الأول فما أعظمه ومرحبًا وأهلا وسهلا به، أما إن كان الأمر ينحصر في الثاني فتلك طامتنا الكبرى، ويدعونا لإبداء الأسف والحسرة الشديدة لماذا؟
الأسف والحسرة مبعثهما أن الجانب الثاني هو الطاغي والشائع بيننا، وتسود فيه العشوائية والتخبط وعدم تقدير واحترام الطرف الآخر، سواء كانت القضية محل الخلاف والتعارك سياسية أو اقتصادية أو دينية أو اجتماعية، فالتجريح والتنابز والتشويه والسخرية والتسفيه وتصفية الحسابات وارتداء ثوب البطولة والشجاعة، تتقدم وتعلو على التوقير والاحترام والنقاش العلمي الهادئ والمتزن والمنزه عن الهوى والغرض والتواضع، وليس الاستعلاء على المتابعين والمشاهدين على اعتبار أن الجالس أمام الكاميرا، أو ميكروفون الإذاعة، أو الكاتب والمحلل السياسي الذي لا يشق له غبار ولا رأي، هو العلامة الفهامة والمثقف القارئ الواعي، وليس مطلوبًا من الجمهور سوى الإنصات لما يقوله والتسليم به دون اعتراض واحتجاج، ولو قليلًا .
ولكي توضع قضيتنا في سياقها الصحيح والمفيد، فإن المرء عليه النظر لبعدين عند تصاعد التراب الكثيف المصاحب للنبش بالماضي، هما الغرض والتوقيت، حينئذ ستظهر الحقيقة ونميز الخبيث من الطيب، ونعي ما إذا كانت المعركة جديرة بالمشاركة فيها تأييدًا ومعارضة، أو الإعراض عنها كلية، والالتفات والانشغال بما يخدم الحاضر والمستقبل ويُحافظ على التماسك الاجتماعي، لا سيما في وقت الشدة والأزمة والضيق.
أيضا يجب أن يكون مفهومًا ومعلومًا للكافة من نقطة البداية أن الهدف ليس إسباغ القدسية على شخص ولا جماعة ما ولا كيان ما ولا عهد بعينه، وأن الانتقاد البناء الهادف والعلمي يصب في مصلحة المجتمع والناس، شريطة التزامه بالمعايير الثلاثة السالفة، فلا أحد فوق النقد والمراجعة، مهما علا نجمه وسطع، وأنه ابتداء على مَن يخوض في الماضي أن يكون مؤهلًا وملمًا بأبعاده وجوانبه الدقيقة، وألا يسعى لفرض وصايته وآرائه على الآخرين قسرًا وإجبارًا، ويتهم مَن يخالفه بالرجعية والتطرف والتزمت، واجتزاء مشهد من هنا وآخر من هناك، أو وثيقة ما للتدليل بها على صحة وجهة نظره.
عن نفسي لدي رأي أومن وأقتنع به اقتناعًا تامًا لا أحيد عنه، هو أن كثرة الانهماك في شئون الماضي يعطل السير قدمًا للأمام، ويهدر الطاقات والوقت، لأن الأنظار تكون مصوبة إلى الخلف، ويصبح من الطبيعي التعثر والسقوط مرة تلو الأخرى، فدعونا نركز قليلًا في المستقبل وارحمونا من "موسم النبش" في الماضي، إن كنتم حقًا وصدقًا تكترثون بالوطن والعبور به لبر السلامة والأمان والازدهار.