يبدو أنني قبل أن أفي بوعدي معكم ـ عبر مقالاتي السابقة ـ بأن أصل إلى الطريقة المُثلى لتربية العقل الجمعي المصري؛ لإخضاعه ليسير وفق سياسة التحكم في النهم الشرائي والاستهلاكي غير المرشَّد؛ سأقوم بتأجيل هذا الوفاء بالوعد مؤقتًا؛ ولما بعد مناقشة مايسمى بـ "هَوَسْ الشراء" أو التسوُّق القهري أو الشراء القهري؛ هذا الهَوَسْ الذي أصيبت به طبقات المجتمع المصري ـ وحتى الطبقة الدنيا ـ منذ عصر الانفتاح "السداح .. مداح"؛ ذاك الانفتاح الذي ترك آثاره السيئة على سلوكياتنا الشرائية والاستهلاكية إلى يومنا هذا.
و"هَوَسْ الشراء" هذا يُطلق عليه علماء الاجتماع في الغرب (بالإنجليزية Oniomania أونيومانيا)؛ وهو مصطلح نفسي يصف الرغبة القهرية لدى الأفراد للتسوق والتملُّك، ويُعد أحد اضطرابات الاندفاع وعدم القدرة على السيطرة وهو اضطراب تاريخي يحدث في نهاية فترة المراهقة وبداية سن العشرين؛ وهو يُعد عمومًا اضطرابًا مزمنًا شبيهًا باضطراب الوسواس القهري بحُب الاكتناز؛ ويرجع هذا إلى التركيبة الاجتماعية ذات النعرة القبلية بين الأسر والعائلات في الريف والمدينة؛ والاندفاع بالتباهي والتغنِّي والتفاخر بين أولاد العم والخال بما يستحوذ عليه كل فرد من ملكية خاصة أو في محيط العائلة.
وفي الحقيقة ـ وقبل أن نقوم ببحث مسألة "هوس الشراء أو الأونيومانيا "ـ علينا أن ندرس ـ بادئ ذي بدء ـ مسألة في منتهى الأهمية والخطورة أيضًا؛ ولنعط بعض العذر لأطفالنا وشبابنا في إصابتهم بهذا الهوس الشرائي الاستهلاكي؛ فهذه المسألة بالغة الخطورة والمؤثرة على السلوكيات وتشكيل الإحساس والمزاج الجمعي الشعبي؛ ألا وهي موجات من تلاوين "الإعلانات" عن السلع الاستهلاكية الضرورية وغير الضرورية؛ وأصبحت ـ من خلال شاشة التليفزيون، وصفحات التواصل الاجتماعي، والمجلات والجرائد وشبكات المحمول ـ تستخدم كافة الوسائل المُبهرة لتصل إلى العميل المُستهدف بسرعة البرق؛ فهي بذلك تحقق أرباحًا كبيرة للشركات المنتجة وانتفاخ جيوب أصحاب رأس المال؛ دون النظر لتأثير هذه الإعلانات على سلوك المستهلك، وخاصة من الأطفال والمراهقين؛ ودون النظر إلى التأثير السلبي على الاقتصاد القومي؛ ولكن رأس المال الخاص.. لايأبه ولا يرحم!
وقد يقول قائل: لماذا لا يقوم المجتمع ـ بالتضافر الجاد مع منظمات المجتمع المدني ـ بتنفيذ أفكار مقاطعة شراء البضائع؟! فهو بهذه الحيلة يستطيع أن يضرب "عصفورين" بحجرٍ واحد؛ فيستفيد بانخفاض السعر من جهة؛ والقضاء على استمرارية النهم الاستهلاكي الذي ينعكس بالأضرار الجسيمة على الاقتصاد القومي؛ من جهةٍ أخرى.
ولكن يبدو أن نجاح هذه المقاطعة في المجتمع المصري يبدو صعبًا أو بعيد المنال؛ لأن هناك بضائع ذات حساسية خاصة لا يمكن الاستغناء عنها على الإطلاق؛ وليس لها بدائل مثل الخبز مثلاً! والمعروف أن المواطن المصري يعتمد اعتمادًا كليًا ـ في وجباته الغذائية وتعويضًا عن البروتين الحيواني ـ على سلعة "الخبز" و "الأرز"! فهل يستطيع الفقراء مقاطعة الخبز والأرز؟ وعن المقاطعة إذا توافرت لها ظروف النجاح ـ لبعض الوقت ـ يقول أساتذة الاقتصاد:
"إن المقاطعة ليست حلاً.. لأن التخفيض سيكون مؤقتًا؛ ثم ستعود السلعة للارتفاع؛ وأن المقاطعة تُعد بمثابة فقاعة مؤقتة؛ والفقاعة مصيرها التلاشي والتبخُّـر.. وليست حلاً اقتصاديًا ناجحًا؛ بل إن انعدام الاستهلاك يعني موتًا سريريًا للاقتصاد"!
إذن ما العمل للوصول إلى طرق سليمة لتربية العقل الجمعي المصري؛ لإخضاعه ليسير وفق سياسة التحكُّم في النهم الشرائي والاستهلاكي غير المرشَّد؟ وللإجابة الصادقة.. يجب أن نشير إلى أهمية وجود قنوات رسمية جنبًا إلى جنب مع منظمات المجتمع المدني؛ للعمل على تنظيم سلوك المستهلك بشكل حقيقي وبقرار واحد على أي سلعة؛ أما بالنسبة لـ "جمعية حماية المستهلك المصرية" ـ الموجودة كرقم فقط على الخط الساخن ـ فإننا في حقيقة الأمر لم نر منها إلا النذر اليسير في التعامل مع البضائع الكبرى كالسيارات وأجهزة الكومبيوتر ومثيلاتها من السلع البعيدة عن القوت الضروري لأفراد المجتمع! ليت دورها يكون فاعلاً حقيقيًا لحماية ما تبقى للمستهلك من حقوق في عدم وقوعه فريسة للاستغلال من جانب التجار الجشعين الذين يفرون دون عقاب أو محاسبة على ما يرتكبونه من جرم في حق المواطن والمجتمع؛ ويصعبون الحياة على الشعب الذي بدوره يصب جام غضبه على الحكومة برمتها فيرتبك السلم العام.. نحن عن هذا كله في غنى.. أليس كذلك؟!
* رئيس قسم الإنتاج الإبداعي الأسبق بأكاديمية الفنون وأستاذ التأليف والكتابة الإبداعية وعضو اتحاد كتاب مصر