تظل الأخلاق دائمًا وعلى امتداد الأشواط الزمنية هي القضية المركزية الممثلة للطموح الشعوري والثقافي لدى الحضارات والشعوب، بل تظل هي القوامة المؤكدة للذات الإنسانية المتسامية على النقائص والخطايا، والباعثة على إحياء الفضيلة وإعلاء القيمة ورفعة المبادئ.
وكذلك تظل هي الملاذ الجبار الذي يحتضن البشر من غوائل الأحداث وكبرياتها لأنها بالطبع هي الفضاءات الملهمة لكل توجه إيجابي نحو النفس والعقل والضمير باعتبارها بؤرة العصمة من مهاوي المسيرة البشرية.
ولقد كانت الأخلاق على كليتها هي جوهر الأديان ومحور الفكر عند الفلاسفة الأخلاقيين ومحل دراسة واستقصاء عند علماء النفس والاجتماع لكونها تمثل آلية بارزة من آليات الضبط الاجتماعي بل الأكثر أنها تعد محكا كاشفا عبر صفحات التاريخ عن مدى الحماقة والانفلات وأيضا عن مدى القناعة والالتزام.
ولعل آخر ما طرح عن الذات الأخلاقية والنسق الأخلاقي في أبعاده وتشعباته وإشكالياته وما دار حوله من رؤى واحتدم حوله من أفكار، كان كتاب "دكتور ظريف حسين" (نحو نظرية للأخلاق الكونية) وهو بالطبع موضوع يمثل ريادة فكرية لما له من الحيوية والخصوبة الكثير والكثير فضلا عن ضرورته لتعميق الوعي المعاصر بتلك القضية الهاربة من الأفق الكوني وما تبع ذلك من استشراء مظاهر اللا أخلاقية المتجسدة في شيوع أنماط الظلم الإنساني والعصف بسلطة القانون وترسيخ فكرة الفوقية الحضارية، إلى غير ذلك من الموبقات المرفوضة فكرا وممارسة.
ويغوص الكتاب في تحليل وتفسير مفهوم الأخلاق والفعل الأخلاقي الأمثل ساردا لآراء الفلاسفة القدامى والمحدثين مفيضًا في الوقوف على مذاهبهم وتوجهاتهم بل ومدى تناقضية هذه التوجهات، ذلك خلال بلورة عناصر وفصول محققة لدرجة كبري من التماسك الفكري والوحدة العضوية بين مفرداتها، فكانت البداية المنطقية عند إعادة تعريف الأخلاق ثم الانتقال الحتمي لمناقشة الأساس الطبيعي للأخلاق منتقلا بالضرورة نحو تحليل الفعل الأخلاقي وما ينبثق عنه من محركات ودوافع الخير والشر وصولا إلى ساحة كونية الأخلاق.
وفي إطار هذه البلورة الموضوعية للقضية الأخلاقية يشير "الدكتور ظريف" إلى أن المثل الأعلى الأخلاقي إنما يتسم بعمق التوافق النفسي والاجتماعي، لكن السؤال الذي ينفذ منه إلى أغوار القضية الأخلاقية إنما قد جاء على نحو يقف على أخلاق القوة ذلك بعد أن كان السؤال عن قوة تأثير الأخلاق ومدى سطوتها، وتلك هي مهمة الفيلسوف حين يحدد سؤال الواقع طبقا لتغير المعطيات مستبدلا الأقدم بالأحدث في إطار ديمومة عصف التغيرات والتحولات التي صعدت درجة اختلال النظام الأخلاقي في الساحة الكونية.
ومن ذلك نراه يرصدها رصدًا دقيقًا جاء على نحو تهديد الأمن القومي للأوطان، إشعال الحروب، الاستغلال والاستبداد، تعمد الإفقار، اصطناع المجاعات، استنزاف الطاقات والثروات، نشر الأمراض، التطهيرات العرقية، تعقيم الخصوم، الاتجار بالبشر، الإرهاب والترويع، تدنيس المقدسات، ترويج المخدرات، نشر الشائعات التعمية والتضليل، إلى غير ذلك مما يجسد أخلاق القوة ومدى انعكاساتها السلبية على العلاقات السياسية الدولية. ومن هنا ينطلق إلى تصنيف المجتمعات طبقًا لمدى انجذابها ونفورها من كل ذلك، فهناك المجتمعات الحرة الناهضة التي تعتمد على الدخول في منافسات حرة نزيهة تجسد القيم الداعمة للحياة، وكذلك هناك المجتمعات المنغلقة التي تعصف بالقيم والشرائع مستبيحة كافة الوسائل، أما المجتمعات الصلبة فهي تلك التي تتسم بالمرونة العقلية، من ثم تنعدم فيها حدة الصراعات ويسودها التعاطف والمشاعر الوجدانية.
وختامًا لكل السياقات الفكرية التي قدمها "د.ظريف" يأتي حديثه عن الأخلاق الكونية في إطار إرهاصات أكاديمية تضمن رؤية نظرية مجردة، يلجأ في التعاطي معها للتجريد والإطلاقية مع قضية لها طابع إستاتيكي يقتضي أن تكون مرجعيته إلى دراسات مسحية يمكن التعرف خلالها على مدى التغيرات القيمية والتحورات الأخلاقية وهو ما يسمح بالانطلاق نحو تحليل السياق الأخلاقي الكوني في طبيعته وظرفياته وتطوريته وحدود توافق الإنسان المعاصر معه ومقارنته بالسياق الأخلاقي القديم ومقارنته كذلك بالنموذج الأخلاقي الأمثل وتقييم وضعية هذا السياق في ظل وجود كافة الآليات الحضارية.
وطبقا لذلك فقد قدم الكتاب العديد من العناصر التي يعتمد عليها الإصلاح الأخلاقي والتي يراها المفكر الكبير عناصر فاصلة في تقييم الوضع الأخلاقي المعاصر وهي عناصر يمكن الإضافة إليها أو الحذف منها، لكن ليس اختصاص الفلسفة الإشارة إلى ضرورة إجراء دراسات مسحية وإنما تقتصر وظيفتها على مغزى وكنه الحقائق التي تكشف عنها الدراسات وتحليلها وتفسيرها وإقامة نسق معرفي يرتبط بنتائجها.. نسق يزخر بالتساؤلات الكاشفة لطبيعة المأساوية الأخلاقية التي يعيشها العالم المعاصر.
وبصفة عامة فالكتاب يعد محاولة جادة ورائدة في حقل الدراسات الفلسفية لإخضاع أخطر قضية انسيابية تؤرق البناء الحضاري إن لم تهدد أركانه ما لم يتم تدارك أهميتها ووجودها الفاعل في عودة الإنسانية إلى مسار الصواب.