إذا رأيتَ الملوكَ على أبواب العلماء فقل نعمَ الملوكُ وصَلُحَ العلماء، وإذا رأيت العلماءَ على أبواب الملوك فقل بئسَ الملوكُ وفَسَدَ العلماء.
احتل العلم مكانة رفيعة عند المصرى القديم، واعتبره ضرورة حياة، ومن هنا جاء تقديره لقيمة العلم ورجاله، فاهتم بإنشاء دور العلم وتعمق في شتى مجالات العلوم والمعارف الأدبية والفكرية والعلمية؛ كالطب والهندسة والفلك وغيرها من العلوم التطبيقية، بالإضافة إلى العلوم الاجتماعية من تاريخ وجغرافيا ومعارف لغوية، كما تضمنت الدراسات العسكرية والعلوم الإدارية.
ويحسب لمصر أنها كانت أول دولة عربية تقيم معهدًا للبيئة بكل التخصصات العلمية، وكان ذلك عام 1982 بجامعة عين شمس، وصدر ذلك بقرار جمهوري في هذا التاريخ بسبعة أقسام وتشمل قسم العلوم الإنسانية البيئية، وقسم العلوم التربوية والإعلام البيئي، وقسم العلوم الاقتصادية والقانونية والإدارية البيئية، وقسم العلوم الأساسية البيئية، وقسم العلوم التطبيقية البيئية، وقسم العلوم الهندسية البيئية، وقسم العلوم الزراعية البيئية.
وأصبح لدى الكلية أساتذة في تخصصات نادرة على مستوى العالم العربي ذوو خبرة كبيرة في عمل الفريق المشترك، وفقًا للمنهج المنظومي الذي يجعل الطلاب قادرين على امتلاك الرؤية المستقبلية الشاملة لأي موضوع، دون أن يفقدوا جزءًا من جزئياته، تلك الرؤية التي تعطي الطلاب القدرة على تحليل الأحداث التي تدور حول العالم بوعي وفهم وإدراك، مما يكسبهم مهارات عليا للتفكير؛ كالتحليل والتقويم وصولًا للإبداع، الذي يعد أهم مخرجات أي نظام تعليمي ناجح؛ كما يساعد المنهج المنظومي على تخريج أجيال قادرة على التعامل الإيجابي مع النظم البيئية التي تعيش فيها، وتُعَدُ جامعة عين شمس أول جامعة اهتمت بالدراسات البيئية والمنظور المتكامل.
ولفت نظري تأكيد الدكتور أيمن عاشور وزير التعليم العالي والبحث العلمي الأسبوع الماضي - خلال لقائه مع مدير هيئة اليونسكو الإقليمي للعلوم والابتكار؛ لبحث آليات التعاون في تصميم البرامج الدراسية البيئية العابرة للتخصصات - تأكيده على الدعم الكامل من الوزارة والدولة لهذه البرامج البيئية، وأنها تقع ضمن أولوياتهم دومًا لتحقيق التكامل بين التخصصات العلمية المختلفة، وتنفيذ المشروعات البحثية المشتركة؛ لأنها الوسيلة الأساسية لتحقيق التنمية المستدامة وتلبية احتياجات رؤية مصر 2030.
كما أكدت الأحداث المعاصرة أهمية وضرورة الدراسات البيئية المتكاملة؛ فمثلا - على سبيل المثال لا الحصر - مشكلة كورونا ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بالتلوث البيولوجي، ولها تداعيات صحية ونفسية واقتصادية وسياسية واجتماعية، كما ارتبطت بعادات وتقاليد معينة، وبدرجة الوعي الصحي والبيئي، كما ظهر أن مواجهة فيروس كورونا استدعت المنظور البيئي الشامل، وعمل الفريق المشترك والمتكامل؛ لنشر الوعي الصحي والبيئي وتغيير العادات السلبية الخاطئة، والحد من المشكلات الاقتصادية والسياسية لها، كما ظهر جليًا عدم استطاعة تخصص واحد الوصول إلى حل لتلك المشكلة.
وهناك كثير من الأمراض ترتبط بالعادات والتقاليد الغذائية، كما أن تزايد الضغوط الاجتماعية والنفسية والاقتصادية لها دور مهم في بعض الأمراض؛ بل إن نوعية العمل ونوعية المسكن أيضًا قد يكون لها دور في ظهور بعض الأمراض، وباختلاف البيئة الطبيعية قد تختلف الأمراض؛ حيث إن المجتمعات الريفية بعاداتها وتقاليدها؛ مثل تربية الحيوانات داخل المسكن تزيد من معدلات بعض الأمراض والتي تختلف عن المدن الصناعية، وهذا كله محور اهتمام المنظور البيئي الشامل والتنمية المستدامة.
أما في مجال الهندسة فمن الأهمية بمكان دراستها من المنظور البيئي الشامل؛ حيث تم بناء عدد من العمارات في بعض البلاد لم يسكنها أحد؛ لأن عادات وتقاليد هذه المجتمعات تفضل السكن المنفصل، ومسكن الريف غير الحضر.
وفي مجال دراسات الأمن القومي، فإن مشكلة الإرهاب لا يمكن حلها من خلال المنظور الأمني وحده، لأنها ترتبط بمورث ثقافي ومعتقدات دينية خاطئة، ومشكلات وضغوط اقتصادية واجتماعية ونفسية وضعف الوعي والثقافة الكافية، ومن هنا فإن مواجهة مشكلة الإرهاب في أمس الحاجة إلى عمل فريق متكامل من علماء النفس والاجتماع والأمن والاقتصاد والتربية والإعلام، وهذا ما ينادي به المنظور البيئي الشامل.
وهكذا معظم قضايا العصر تستلزم عمل الفريق المتكامل من خلال المنهج المنظومي للتشخيص الدقيق الذي يسهل الوصول إلى الحلول المناسبة؛ ويتابع مراحل المشروعات؛ لتلافي المشكلات قبل وقوعها، ويدعم نقاط القوة، ويقوي نقاط الضعف؛ ولذلك انتشرت الدراسات البيئية منذ القرن الماضي في أوروبا وأمريكا وبلدان عديدة، وأصبحت مقياسًا للحكم على مدى فائدة أو صلاحية أي مشروع.
وبدأ العالم المتقدم يفرض على أي مشروع إجراء دراسة تقييم أثر بيئي قبل الموافقة على إقامة المشروع، وترجع البداية تحديدًا إلى عام 1969، حينما أصدر الرئيس الأمريكي نيكسون قرارًا يشترط إجراء دراسة تقييم الأثر البيئي للموافقة على أي مشروع؛ من خلال فريق عمل متكامل من علماء الطبيعة والطب والاقتصاد والهندسة والاجتماع والتربية.. وغيرهم وهذا يعني المنظور البيئي الشامل.
وبعده بسنوات قليلة اشترط البنك الدولي قبل الموافقة على أي مشروع إجراء دراسة تقييم أثر بيئي واجتماعي؛ لأنه يصعب تحقيق النجاح لأي مشروع إذا تعارض مع قيم وعادات أي مجتمع، على الرغم من أنه كان موجودًا ضمن التقييم البيئي؛ لكنه إشارة واضحة لأهمية الجوانب الاجتماعية والنفسية لنجاح أي مشروع.
ومن هنا جاءت فكرة إنشاء معهد الدراسات البيئية سابقة للعصر، وتم تخريج العديد من الباحثين المصريين والأشقاء العرب، وقد ساهموا في قيادة العمل البيئي في مصر والوطن العربي بأكمله، وأصبح اليوم حديث العالم عن هذه الدراسات البيئية المتكاملة؛ لأهميتها التي تتزايد يومًا بعد يوم؛ وذلك لمواجهة مشكلات التنمية المستدامة، والطاقة والغذاء وتغير المناخ وجفاف الأنهار؛ من أجل تحقيق رؤية مصر 2030.
وخير ختام هو أن ندعو الله في ختام هذا العام وبداية العام الجديد أن يجعل بلدنا مصر بلدًا آمنًا مطمئنًا سخاءً رخاءً، وأن يصلح ذات بيننا، ويهدي أبناءنا إلى صراطه المستقيم.