افترقنا على وعدٍ بالحديث عن محاولة إيجاد طريقة للبحث عن تربية العقل الجمعي المصري؛ لإخضاعه ليسير وفق سياسة ترشيد النهم الشرائي والاستهلاكي غير المحكوم! لكنني أدركت ــ قبل الولوج في البحث عن هذه الطريقة المُثلى لهذا الترشيد ــ أن هناك مايقال عنه: "الشيء.. لزوم الشيء" ـ تيمنًا واستنادًا إلى مقولة الفنان العظيم الراحل/نجيب الريحاني؛ وهذا الشيء المهم والضروري يأتي في المقام الأول وهو: ضرورة ترشيد وتحجيم الزيادة السكانية المطردة؛ تلك الزيادة التي تلتهم في طريقها الأخضر واليابس؛ تمامًا كـ "دودة القز" التي تلتهم أوراق شجرة عملاقة في وجبةٍ واحدة! فما أدراك بمائة مليون وزيادة.. والحسَّابة بتحسِبْ؛ وعقارب "الساعة السكانية" تلهث في الدائرة الكونية المُفرغة!
ولعلي أكاد أستمع لصرخاتها التي تنادي بوجوب البحث عن برامج توعية جادة لتجنب هذه المشكلة؛ بعيدًا عن الأسلوب الساذج في "انظر حولك" وأغنية "حسنين ومحمدين"؛ وهي الأغنية التي يرددها الفلاح في نجوع وكفور "بر مصر "؛ وهو في طريقه لإنجاب الطفل السادس.. وربما السابع! وفي عقله وضميره أنه بذلك يضمن "العِزوة" والتفاخر والتباهي بزيادة العشيرة؛ وليذهب إلى الجحيم الاقتصاد والتنمية والاستثمار؛ و"تغُور في داهية" ــ العملة المتمثلة في المأسوف على شبابه ـ "الجنيه"؛ ذاك "الجنيه" الذي أصبح لا يساوي في الأسواق سوى "قُرص طعمية" للغلبان!
ولكنني ـ للأمانة ـ لابد أن أشير إلى اهتمام القيادة السياسية بهذا الملف الشائك؛ وتم ترجمة هذا الاهتمام في صورة قرارات على أرض الواقع؛ وذلك من خلال وضع "إستراتيجية السكان 2030"؛ من أجل التعامل الجاد مع هذا الملف.
ولكن لم تعتمد هذه الخطة على مجرد قرارات فقط؛ ولكنهم رسموا خارطة طريق تتلخص في:
*إطلاق حوار مجتمعي لبناء مساندة شعبية تتبنى السياسة القومية للسكان! وماذا بعد؟
لم يتم هذا الحوار المنشود حتى الآن!
* رسم سياسة للإعلام السكاني؛ تلتزم بها المؤسسات الإعلامية الحكومية وغير الحكومية.. ولا حياة لمن تنادي!
* وضع تقديرات النمو السكاني وأعداد المواليد في الاعتبار عند التخطيط للمرافق والخدمات؛ وبخاصة في المدن الجديدة والمجتمعات العمرانية المزمع تشييدها.
وهانحن.. على رصيف الانتظار!
إذن.. وحتى تتحقق الأماني والأمنيات على أرض الواقع؛ فإنه لابد من التوعية المستمرة ونشرها بضرورة خفض عدد السكان؛ أو تنظيم الإنجاب من أجل تقليل عدد أفراد الأسرة الواحدة؛ ولتكون الموارد على قدر العدد بلا نقصان؛ واستمراراية تعزيز دور البرامج التي تستهدف النهوض بكافة القطاعات الصحية والاقتصادية والاجتماعية؛ من أجل استيعاب الزيادة المتنامية في عدد السكان؛ والانتشار الأفقي والرأسي على خريطة الوطن؛ والوصول إلى المناطق المحرومة من خدمات تنظيم الأسرة ـ وبخاصة في العشوائيات ـ وحتى نجد ـ في المستقبل ـ أماكن وفرص العمل التي تمتص تلك الزيادة المطردة للقضاء على الفقر.. والبطالة.. والعنوسة!
عذرًا.. لأنني بدأت حديثي عن ضرورة البحث عن حل لمشكلة النهم الشرائي والاستهلاكي داخل المجتمع المصري ـ وقادني قلمي إلى الحديث عن "النهم المتزايد في الإنجاب"؛ دون مراعاة الدخل المحدود للأسرة المصرية العاملة؛ وعملًا بالمقولة الساذجة التي رددها بعض "الدعاة" على المنابر؛ وآمن بها الناس البسطاء في كل مكان.. وهي: أن كل طفل ييجي برزقُه!
وتلك المقولة تفتح الأبواب للدخول في معالجات ومسارب أخرى ليس هذا مجالها!
وليكن مدخلي إلى الحديث عن النهم الشرائي والاستهلاكي؛ هو الإشارة السريعة إلى "بندٍ" واحد من بنود قائمة استهلاك الأسرة الواحدة ــ ناهيك عن بنود الطعام والشراب والملبس وفواتير الغاز والكهرباء والمواصلات ومصاريف المدارس والدروس الخصوصية ـ وهو تعامل أفراد الأسرة الواحدة مع مايسمى بـ "شبكات التواصل الاجتماعي"؛ تلك الشبكات التي اقتحمت حياتنا في نهايات القرن الماضي؛ وكانت في ظاهرها "وسيلة اتصال" لتدعيم الحياة الاجتماعية بين أفراد الأسرة والمجتمع؛ ولكنها غدت ــ للأسف ــ "وسيلة انفصال"؛ وأصبح "الأخ" يتحدث مع "أخيه" في الغرفة المجاورة عن طريق جهاز "المحمول"؛ هذا الجهاز الذي نجحت الشركات الاستثمارية في تطبيق حملة الدعاية لأجهزتها بأن يكون "المحمول.. في كل يد"! وتخيلوا معي أنه أصبح في يد كل فرد في الأسرة المصرية "جهازًا" يحرص كل فرد على استجلاب وامتلاك أحدث الأجيال التكنولوجية في هذا الجهاز العجيب؛ والذي تبلغ تكلفته في بعض النماذج إلى أربعين ألف جنيه! أليس هذا "سفهًا" وامتدادًا لهذا النهم الشرائي والاستهلاكي في بند من بنود الكماليات والفانتازيا؛ وليس من الضروريات الحياتية الملحَّـة! وإنني أنادي بعودة التواصل العائلي الحقيقي الدافئ العفيف؛ فلن نجده في هذا الفضاء الافتراضي الجاف المخيف.
أعترف بأنني مازلت أبحث وأنقِّب عن الطريقة المُثلى لتربية العقل الجمعي المصري؛ لإخضاعه ليسير وفق سياسة التحكم في النهم الشرائي والاستهلاكي غير المرشَّد!
ولكن.. لكل حدثٍ حديث! فإلى لقاء معرفي جديد.
* رئيس قسم الإنتاج الإبداعي الأسبق بأكاديمية الفنون
وأستاذ التأليف والكتابة الإبداعية وعضو اتحاد كتاب مصر