ليست قناة السويس شريانًا مائيًا يصل البحر الأحمر بالبحر المتوسط فحسب، ولكنها شريان يضخ الدماء في عروق جسد كل إنسان مصرى، لأنها شقت وحفرت بأيدٍ تنزف دمًا من جسد المصريين، فمن أجلها دفن ووضع في رمالها عشرات الآلاف من العمال الفعلة من أبناء هذا الشعب، بعد أن تعهد سعيد باشا الذى اعتلى عرش مصر، بأن يكون أربعة أخماس عمال الحفر السخرة من الفلاحين، وتاريخ مأساة شق هذا البرزخ، ما يزال ماثلًا في الأذهان؛ لأنه كتب بتاريخ دماء شهدائنا الأبرار فمنهم من لقي حتفه على ضفاف القناة، ومنهم من تمزق جسده المكشوف نتيجة تعرضه لزمهرير برد الشتاء القارس، ولهيب حر شمس الصيف المحرقة، ومن مات من الجوع والعطش والأمراض وشدة الآلام من قسوة العذاب والضرب بالسياط على أجساد بريئة عارية لا ترحمهم فحيح كرابيجها، على يد شخصيات فقدوا كل ضمائر الإنسانية، لا تأخذهم شفقة ولا رحمة لكل مصرى حفر بفأسه القناة، فكانت مذبحة إزهاق الأرواح من الفلاحين المسخرين لحفرها، وتوالت مأساة مصر والقناة، بعد أن تورط خلفاء محمد علي، ومنهم سعيد باشا والخديو إسماعيل بتوريط البلاد في القروض والديون، التي كانت سببًا في خلق الأزمات الاقتصادية وفرض عقود الامتياز الأجنبية، حتى أصبح الدين الأجنبى وأطماع الدول الاستعمارية الكبرى على قناة السويس صارتا في مصر أمرًا واقعًا ولا مفر منه، حتى وقعت الكارثة وهزيمة أحمد عرابي في التل الكبير، وغزو احتلال بريطاني لمصر عام 1882 كان أشد قسوة ومرارة دام أكثر من سبعين عامًا، حتى كان رحيل آخر جندى بريطاني عن قاعدة قناة السويس عام 1954.
وبعد هذه الأهوال ونهب وسرقة أسهم وأموال قناة السويس من قبل الدول الاستعمارية، وهي مرفق حيوي من المرافق العامة للدولة، أى تمتلكها الدولة المصرية وتخضع لقوانينها وفى ظل حمايتها وتحت سيادتها، جاء قرار التأميم بعد أن سحبت حكومة الولايات المتحدة الأمريكية معونتها التى وعدت بها الحكومة المصرية فى تمويل بناء السد العالي، فكان إعلان الرئيس الراحل جمال عبدالناصر بتاريخ 26 يوليو عام 1956 من ميدان المنشية فى الإسكندرية عن تأميم الشركة العالمية لقناة السويس شركة مساهمة مصرية، وجميع أسهم وممتلكات القناة تؤول ملكيتها بالكامل للدولة المصرية، وبعد إعلان قرار التأميم فرح المصريون وابتهجوا بهذا النصر العظيم بعد أن عادت لهم إدارة القنال وأصبحت مصرية 100%، وبعد هذا القرار التاريخي الذى كان له صدى كبير في جميع الأوساط السياسية الدولية، لما لهذه القناة من أثر كبير في الاقتصاد العالمي، وجراء هذا الحدث ملأت قذارة الأحقاد قلوب الدول الاستعمارية في ذلك الوقت، فرنسا وبريطانيا و بمشاركة إسرائيل، بالقيام بعدوان على مصر سمي بالعدوان "الثلاثى" بضرب المدن المصرية بالقنابل والقذائف والنزول باحتلال مدينة بورسعيد، وكان ذلك في مطلع شهر نوفمبر عام 1956، وبعد فشل هذا العدوان أمام قوة وصمود الجيش المصري في ردعه، وأمام هذا التقهقر والارتباك فى صفوف العدو، سجل التاريخ لمدينة بورسعيد الباسلة أعظم بطولات المجد والشرف والفداء والتضحية، بكفاحهم المسلح بالتصدى لهذا العدوان الغاشم حتى كان النصر حليف الجيش المصري والمقاومة الشعبية لأبطال بورسعيد البواسل.
فانسحب العدو أمام هذه المقاومة، وأدرك أنه لا يستطيع الصمود طويلًا أمام هذا الزحف الشعبي لكل أبناء المدن المصرية لمساندة شعب بورسعيد وتشكيل مقاومة مستميتة، تنهار أمامها جيوش المعتدين، فقد كان النصر حليف القوات المسلحة ورجال المقاومة الشعبية التى سارت مع الجيش المصري كتفًا بكتف حتى كانت التضحية والنصر والشهادة، وكانت الهزيمة والخزي والعار تلاحق قوى البغي والعدوان، ووقف العالم كله بجانب مصر؛ لأنها كانت تقاتل في سبيل الدفاع عن حقوقها المشروعة، وعن مرافقها الاقتصادية، وكانت ضريبة هذا الدفاع هو دماء شهدائنا البواسل، أمام هذا الصمود والتحدي، ووقف العالم كله ضد دول العدوان الثلاثي، وطالب بانسحاب هذه الدول من جميع مدن القناة، وتحول النصر ضد عدوان 1956 إلى نصر عسكري تدعمه قوى سياسية دولية.
وبعد هذا النصر العظيم، تم تطهير القناة عن طريق لجنة الخبراء من قبل الأمم المتحدة بمشاركة الخبراء والفنيين المصريين، ولم تتوقف الملاحة الدولية في قناة السويس منذ قرار التأميم، إلا بعد نكسة 5 يونيو عام 1967 فقد قررت الحكومة المصرية غلق القناة، ولم تسرْ الملاحة الدولية سيرًا طبيعيًا كما كانت عليه قبل الغلق، إلا بعد انتصار حرب السادس من أكتوبر المجيدة عام 1973، وبعد نصر العبور قرر الرئيس الراحل محمد أنور السادات تطهير القناة وإعادة افتتاحها في 5 يونيو عام 1975، بعد إغلاق دام أكثر من 8 سنوات، تأثر فيه اقتصاد دول العالم تأثيرًا مباشرًا من ركود وهبوط واضطرابات اقتصادية عنيفة، وخاصة بلدان الدول الأوروبية، وبعد ذلك قامت نهضة عظيمة من التوسعات للقناة منذ عام 1980، وكانت آخر مشاريع هذا الزحف المقدس من التوسعات، هو مشروع تطوير وتوسيع وتعميق قناة السويس الجديدة، والذي تم افتتاحه في السادس من أغسطس 2015.
وتعتبر قناة السويس من أعظم الموارد الاقتصادية التي تدخل أرباح أموالها في الموازنة العامة للدولة، مثلها مثل المرافق الاقتصادية الأخرى من قطاع البترول والسياحة والضرائب....، وفي تطور تشريعي جديد خاص بقناة السويس تقدمت الحكومة بتعديل بعض أحكام القانون رقم 30 لسنة 1975 بنظام هيئة قناة السويس، الحكومة تهدف من هذا القانون إلى وجود كيان اقتصادى مستقل تكثر وتتعاظم فيه الموارد والاستثمارات، لمواجهة ما يستحدث عنه من أزمات ومن تبدل فى الأحوال، ولنا في ذلك حادثة أزمة سفينة الشحن "إيفرجيفن" فقد نجحت إدارة القناة في عبور هذه الأزمة في أيام قلائل، ويعتبر ذلك من أشرف غايات الكيان الاقتصادى المستحدث هو مجابهة الأزمات والحالات الطارئة، كما حدث في حادثة السفينة السابق ذكرها، ولاشك أن من أعظم تمجيد هذا الكيان الاقتصادى هو الحصن الحصين في دعم ومساندة هيئة قناة السويس والدولة عندما يتأثر العالم اقتصاديًا أو بيئيًا؛ نتيجة تعرضه لقوة قاهرة أو سوء في الأحوال الاقتصادية، وهو أحوج ما تحتاج إليه مؤسسات الدولة كلها في هذه الظروف الاستثنائية الطارئة، وتعتبر القوة القاهرة التى تعرض لها العالم وتأثر اقتصاد الدول بها هي "جائحة فيروس كورونا المستجد"، وتعتبر الحرب الروسية - الأوكرانية لها تأثير سيئ على الاقتصاد العالمي أيضًا، فمن أجل مواجهة تلك الكوارث تسعى الحكومة بتقديمها مشروع هذا القانون هو الصالح العام، فلماذا لا نستفيد بتعظيم موارد القناة من خلال كيان اقتصادى فيما لا يمس القناة، ونحن بصدد إصلاح الوطن وإعلاء شأنه؛ لأن الوطن في حاجة إلى أصحاب الفكر والعلم والمعرفة وهذا يتطلب أيضًا تطوير التشريعات واستحداث قوانين جديدة تنظم هذه الأعمال، فعندما تقدم الحكومة مشروع قانون لتنمية مرفق من المرافق الاقتصادية للدولة من أجل تحديد مركز قانوني مستقل عن هذا المرفق، يكون عونًا وسندًا للدولة وقت الأزمات ويكون له الاستقلالية التامة في تنمية موارده بعيدًا عن موازنة المرفق الأصلي الأم، تكون سلطة الحكومة والسلطة التشريعية محكومة بمقتضيات الصالح العام، لأن الدستور يقيد سلطة المشرع ببعض القيود، إذا تعلق الأمر بمسألة تخالف نص دستوري ملزم، والشرعية الدستورية في الدستور المصري الجديد تنص في مادته رقم ( 43) على أنه "تلتزم الدولة بحماية قناة السويس وتنميتها، والحفاظ عليها بصفتها ممرًا مائيًا دوليًا مملوكًا لها، كما تلتزم بتنمية قطاع القناة باعتباره مركزًا اقتصاديًا متميزًا."
وعلى ذلك فإن قناة السويس ملك الدولة المصرية وحدها وتحت سيادة بنص قانوني أعلى وأسمى صريح، فكل ما يقال من "تخاريف" "وأوهام" من هستيريا الإعلام المضاد من قنوات الشر، عن أن مشروع القانون يهدف إلى بيع قناة السويس، ما هي إلا تخاريف شاذة تصدر من شخصيات شيطانية قذرة، لا حديثًا لها فى مواقع وقنوات الشيطان إلا عن مصر بإطلاق الفتن والشائعات، لأن حجم المؤامرة على مصر كبير فهم يحاولون هدمها، وهذا هو الدور الأساسي لهؤلاء المجموعة المرتزقة من الأذرع الإعلامية التي تمولهم جهات أجنبية خبيثة، لكي تنال مصر ما نالته الدول العربية الشقيقة، مثل ما يحدث في سوريا وليبيا واليمن من عدم استقرار الأوضاع الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، فهم يريدون العودة بنا إلى زمن الفوضى والخراب والانهيار الاقتصادى، كما حدث بالضبط أثناء وبعد فوضى ٢٥ يناير من عام ٢٠١١، وهذا شغلهم الشاغل ببث سموم الفتن والشائعات لضرب الوطن وتأليب الرأي العام ضد الحكومة، التي تقوم بعمل جبار من أجل النهوض بالدولة اقتصاديًا واجتماعيًا وزيادة معدل النمو بزيادة فرص الاستثمار في المشاريع الهائلة لمواكبة نهضة صناعية وزراعية كبرى تشهدها مصر في عهد الرئيس السيسي، عهد البناء والتنمية والعمران.
وأختتم مقالي هذا بالآية الكريمة "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ" الآية رقم (6) من سورة الحجرات