غيبوبة.. دموع دموع

29-12-2022 | 18:11

لماذا تكثر الدموع وتصبح قريبة جدًا كلما تقدمنا في السن؟ 

عندما كبر أبي كثر بكاؤه على أي شيء يحدث، على الأطفال إذا مرضوا، على أصدقائه إذا ماتوا، على أمي التي ماتت منذ زمن، بل كثيرًا كنت أجده يبكي دون أي سبب ظاهر لنا، وإذا استفسرت عن سبب بكائه أخفى وجهه وقال: مفيش حاجة.. شويه كده، كان أبي رجلًا قويًا، أشهد له بذلك، كان بحبوحًا إلى أقصى درجة مبدأه في الحياة الذي لم يتخلَ عنه حتى مماته هو "اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب"، يعشق الضحك والهزار ويجيد اختطاف لحظات السعادة بمنتهى القوة والمهارة حتى لو كانت قليلة.

لكن على الجانب الآخر كان يكفي أن نرتكب خطأ ما في المنزل أو المدرسة وتهددنا أمنا بأنها سوف تخبره عند عودته، كان ذلك كفيلًا بأن نقبل قدميها قبل يديها حتى لا تفعل، ونقف في النافذة نترقب وصوله ونجري عليها نرجوها أن تتكتم الأمر.

لكنه كبر ورأيته يبكي بحرارة على أمور لم أظنها يومًا قد تبكيه، رجل شاهد من الأهوال ما لا يعد ولا يحصى على مدى تسع سنوات من الحروب، رأى أجسادًا مقطعة، جمع أشلاء زملائه ودفنها بيديه، سار أيامًا طويلة في الصحراء بلا طعام ولا شراب، لم أر أبدًا دموعه قريبة إلى هذا الحد، والآن تبكيه ذكرى، مجرد ذكرى تمر أمام عينيه؟

وأنا.. لماذا أصبحت كثير البكاء؟ نعم كنت كذلك في الماضي، أتذكر جيدًا ذلك الطفل الذي كان يبكيه أي شيء، نظرة متجهمة من أبيه أو أمه، "تكشيرة" من أستاذ في المدرسة، كلمة ربما غير مقصودة من أحد الأصدقاء، لكنه كان شديد الحساسية، دموعه هي أقرب وأسرع وسيلة للتعبير عن حزنه وربما غضبه، هي الصديق وقت الضيق.. لكن أحد أعمامه نهره وأخبره بسر خطير، "البكاء للحريم" وليس للرجال، ومن ساعتها انقطعت صلته بالبكاء إلى غير رجعة، فقد الصديق الذي كان يلجأ إليه وقت الضيق، توقفت الدموع بل تحجرت، وأصبح من الصعب الحصول عليها حتى في أصعب الأوقات.

وقت وفاة أمه ولحظة دفنها كادت الدموع تجد طريقها مرة أخرى إلى عينيه لتعود الأمور إلى مجاريها، لكن أحدهم تداركه سريعًا معاتبًا ومخبرًا إياه بسر آخر خطير جدًا: وبعدين.. إنت الكبير، إذن ماذا يفعل إخوتك الصغار، فتراجعت الدموع على الفور، وكأنها قد فهمت وأدركت أن وجودها غير مرغوب فيه، لكنه تدارك ذلك لاحقًا، حين قرر أن يختفي عن الجميع، وبخاصة هؤلاء الكهنة حملة الأسرار المقدسة الذين كانوا السبب في انقطاع صلته بالبكاء، ذهب إلى قبر أمه وحده وظل يبكي طويلًا ويشتكي إليها مرارة الأيام وغربتها بعد رحيلها عنهم، ظل يبكي حتى هدأ وانصرف دون أن يراه أو يعاتبه أحد. 

أحيانًا كثيرة كان يتمنى أن يبكي بشدة وقتما يريد ولو أمام كل الناس، كان يشعر أن البكاء هو خلاصه الوحيد، سبيل النجاة من همومه، لكن الدموع اختفت لفترة طويلة حتى اعتاد الأمر، بل إنه بدأ يشعر بالتميز والقوة لأنه لا يبكي أيًا ما كان الأمر.. لكنه الآن يبكي كثيرًا وربما بدون أي سبب!

ربما البكاء الوحيد الذي أعرف له سببًا هو بكائي وأنا أقرأ القرآن الكريم، الخشية والخوف من الله تبكيني، الخوف من الذنوب يبكيني، الخوف من التقصير في حقوق الله يرعبني، الرجاء في رحمة الله تدمي عيني بكاءً.

لكن السؤال هو لماذا أبكي الآن وأنا أكتب تلك السطور؟ لماذا أبكي عندما تمر ببالي ذكرى معينة، هل هو الحنين للماضي؟ أم اليقين بأن قطار العمر قد مضى ولا سبيل لعودته؟ أم الشعور بأن نهاية الرحلة قد اقتربت؟ 

لماذا تبكيني أغنية "وإحنا فايتين على الحدود" كلما ركبت الطائرة، رغم سعادتي الكبيرة بالسفر والترحال، وعلمي أنني سوف أعود، أنا لست مهاجرًا، مجرد أيام قليلة وأعود، لكن أبكي، وأبكي بمرارة، لماذا ؟ لا أدري.

أنا اليوم لا أناقش فكرة أو موضوعًا حدث بالفعل، لكنني أطرح تساؤلًا عن أمر شديد الغرابة يحدث للكثيرين، لماذا تصبح الدموع قريبة جدًا كلما تقدمت السن؟ 

كلمات البحث
الأكثر قراءة