ولد أميرًا محاطًا بالرفاهية والتدليل "وينتظره" مستقبل مريح وناجح وسعيد، وفوجئ وهو في التاسعة من عمره بأمه الأميرة عالية بنت المنذر تأخذه وشقيقه وشقيقته للهرب من القصر ومن بلده متنكرين خوفًا من اعتقال الفرنسيين لهم لدور والده الأمير فهد الأطرش البارز في مقاومة الاحتلال الفرنسي، ومن هذه اللحظة تغيرت حياته وللأبد..
إنه "المتميز" الموسيقار والمطرب وملك العود فريد الأطرش..
ولد في سوريا في 19 أكتوبر 1910 وغادر جسده الحياة في 26 ديسمبر 1974 وبقيت ألحانه، عاش حياة "قاوم" فيها الفقر وضيق الحياة ثم الحزن لوفاة أخته المفاجئة والمرض الذي باغته بأزمات متكررة حادة وعنيفة..
لم يتحدث إلا في مذكراته عن ظروف حياته القاسية "واضطراره" لترك بلده وأسرته الحاكمة "ولم" يتاجر بمرضه "وركز" دوما على فعل الأفضل في فنه..
قال فريد: "علمتني الحياة وأنا في أول الطريق احترام العمل ووضعه في المرتبة الأولى قبل أن أتذوق طعم النجاح والشهرة أن تتذوق أسرتي شيئًا من السعادة والاستقرار"؛ وعمل في مهن كثيرة وهو طفل لمساعدة أمه التي باعت ممتلكاتها "واضطرت" للعمل في مهن متنوعة لتساعد أولادها على التعليم "والصمود" في وجه الفقر.
التحق فريد بالمدرسة باسم مستعار خوفا من الفرنسيين وانكشف أمره عندما زار المدرسة من يعرف أسرته واضطر لتركها والالتحاق بغيرها.
يقول فريد: "تعلمت من أمي بعدما تخطيب سن الطفولة والتعليم الابتدائي أن الصدق والإخلاص وحب الناس قيم عزيزة يجب تزكيتها ورعايتها حتى تنمو وتزدهر داخل نفوسنا".
عندما سئل عن سر تمسكه بحذاء أبيض اللون أجاب باعتزازه به فلم يمتلك غيره سابقًا فهو تذكار لكفاحه ونجاحه.
لم ينحن عند الفقر ولم يغتر عندما اشتهر وأصبح ثريًا؛ وكيف لا يفعل وهو القائل: "تعلمت أنني لو توقفت يومًا عن العمل لتأخرت وضعت في غياهب الطريق فالحياة تيار مستمر يتطلب العناد والحركة والمقاومة ومن يتوقف فسيجرفه التيار ويغرقه".
فهم جوهر النجاح وحتمية الكفاح؛ فقال: "النجاح إذا تم في ليلة بدا وكأنه حلم إن الحقيقة تكمن فيما هو مستمر وفيما هو دائم".
كان يعرف قدر نفسه جيدًا؛ واحترم موهبته وضع ألحانًا "صعبة" ومتميزة ليغنيها بنفسه؛ ليظهر قدراته كمطرب وصمد أمام الحرب ضده، وتميز بإتقان العزف على العود حتى لقبوه بملك العود.
أنتج أفلامه ولم يضع نفسه تحت رحمة الآخرين "واقترض" لينتج أول أفلامه واستعان بشقيقه لإدارة الإنتاج وكان متميزًا بعلاقته بأسرته بأمه ووفائه لها وتميز بعلاقته الطيبة بزملائه وأشادوا بمساندته لهم عند أزماتهم المادية والصحية وبطيبة قلبه؛ وتجنب التشاحنات والتنافس "غير" الشريف وتعامل مع الجميع برقي.
تحدى المرض وعاش الحياة من خلال ألحانه، ولم يهزمه وجع أيام الفقر وبعد الغنى كان كريمًا مع الجميع فأزال الوجع "وصنع" الفرح بالنعم؛ فكان دائم الشكر للرحمن الذي "رزقه" الموهبة، وقال: تعلمت الصبر والصمود أمام أقسى صدمة عانيتها وهي وفاة أختي أسمهان، وللحياة وجهها المفرح الذي يهون كل شيء على النفس ويملأ القلب فرحة وحماس"، وأضاف: "هذا هو الفهم الصحيح للحياة والإدراك للوجه الطيب منها فمجرد إحساس بأنني أعيش وأتحرك وأتكلم وأشعر فهذا شيء كبير وعزيز وغالٍ وكل هذه نعم".
لم يغتر أبدا؛ فالغرور أكبر عدو في الدين والدنيا؛ في الأولى يخسر رضى الله ويصبح مثل قارون الذي قال: "إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي"، أو يقترب منه وفقا لدرجات الغرور.
وفي الثانية يخسر حب المخلصين ويجمع من حوله -فقط- المنافقين؛ وخسارة المخلصين "تحرمه" من نور الحب الصادق والنصيحة التي تسعى لمصلحته والعين التي تريه عيوبه لتنبهه؛ بينما المنافقين يزينون له كل شيء حتى عيوبه "فيغرق" ولو بعد حين.
غنى لصالح الثوار ببلده وقدم قصيدة وطنية تهاجم الاحتلال الفرنسي وتمجد الثوار وتبرع بالمال لمساعدتهم، وكان عربيًا وحدويًا وعاشقًا لفلسطين وقدم أوبريتات وأغاني تدعو للوحدة العربية وغنى قصائد بالفصحى.
كان مفتاح شخصيته الصدق والمثابرة والوضوح؛ فكان صادقًا في رغبته في التلحين لأم كلثوم وصادقًا في غضبه منها لتراجعها عن غناء قصيدة لفلسطين اتفق معها فريد على غنائها.
تعرض لأزمات صحية حادة؛ كان يبذل الجهد لتخطيها وكان "يخاف" من أن يسلب منه المرض القدرة على العمل لآخر لحظة في عمره، كتب في وصيته المال لطباخه الخاص ولخادمتين عملتا معه طويلًا ولبعض من أخلصوا له.
تميز باعتزازه بفنه وبنفسه وتواضعه بنفس الوقت وأثبت أن احترام الموهبة وبذل الجهد والمثابرة يحققون النجاح "والتفرد"؛ فلم يقلد أحدا وحافظ على شرقية ألحانه وأبدع في أنغامه بعيدًا عن الانبهار بالغرب وتعامل برقي حتى مع الذين أسأوا إليه؛ ورفض الإساءة "بكبرياء" ولم يقل شيًا مسيئًا وعرف بخفة الظل.
ربما أفضل ما فعله فريد هو إثبات امكانية نجاح الإنسان "وتميزه" واحترامه لتفرده الإنساني ولكل منا بصمته الإنسانية الخاصة، واحتفاظه بالقمة طوال عمره دون النفريط في نقائه وبلا تنازلات أو قبول لما يخالف إعتزازه بنفسه.