مستقبل سوق العمل في ضوء التحديات الراهنة

11-12-2022 | 12:04

يعاني العالم من مجموعة من التحديات التي حتما ستغير طبيعة العمل وآليات سوق العمل وعلينا الاستعداد لذلك، فقد شهد العالم ثورة عارمة من التطور التكنولوجي والابتكارات المتلاحقة والمستمرة، الاعتماد المتزايد على التكنولوجيا في كثير من الصناعات كبديل للبشر، آثار متلاحقة لجائحة كوفيد-19 والتي خلقت حالة من التغير الشديد في طبيعة العمل وطرق العمل وايضا طرق في الاستقطاب والتسكين والدفع وخلافه، انهيار اقتصادي غير مسبوق يضرب كثير من بلدان العالم المتقدم والناشئ والنامي، اضطرابات متلاحقة في أسواق كثير من السلع، مشكلة الطاقة حول العالم، التركيز المتزايد على قضية المناخ، الحرب الأوكرانية الروسية وتبعياتها على حالة الاستقرار الاقتصادي والسياسي حول العالم، ارتفاع تكلفة المعيشة نتيجة شراسة حالة التضخم الراهنة، الفلسفة الجديدة التي تتبناها كلا من الصين وأمريكا في معركة الحرب التجارية، كل هذه العوامل وغيرها في الغالب سترتب عدد من التحولات في سوق العمل في الفترة القادمة والتي علينا دراستها والاستعداد لتبعياتها والتعامل معها بمنطق العلم لا بمنطق التقليد الأعمى. ونرصد هنا خمسة تحولات هامة تؤثر على مستقبل سوق العمل وهي.
 
الاتجاه الأول: هناك اتجاه قوي في دول العالم المتقدم لتقصير عدد أيام أسبوع العمل إلى أربعة أيام فقط. ينادي الكثير من العاملين في دول العالم المتقدم بضرورة تقصير أسبوع العمل إلى أربعة أيام بشرط عدم التأثير على الأجر المدفوع مع تعهدهم بتحقيق نفس معدلات الإنتاجية أو أكثر منها كضمان لعدم تضرر أرباب العمل. هذا الاتجاه مدفوع بالاتجاه نحو الحفاظ على الحالة الصحية والنفسية وكذلك تمتع العاملين بأوقات الفراغ مما يعظم من قدراتهم على الأداء في العمل بعد العودة من هذه العطلة الطويلة. كما أنه يسمح بتماسك الأسر حيث يقضي العامل فترة أكبر في رعاية شئون أسرته. كما ان هذه العطلة الطويلة تسمح لهم برعاية المنزل وقضاء جزء كبير من الوقت في رعايته ورعاية شئون الأسرة. وقد تستخدم العطلة في تحقيق هدف خاص بالموظف كالدراسة وتطوير الذات وأشياء أخرى خاصة بكل حالة على حده. لذا أسبوع عمل مدته أربعة أيام هو مجرد واحد من اتجاهات العمل التي يمكن أن نشهد تطورها في الأشهر المقبلة، كجزء من اتجاه أوسع حول مرونة أكبر في العمل مع مرور الوقت. وهذا يطلق عليه أربعة أيام في الأسبوع أو مرونة أكبر في العمل. و إذا نظرنا إلى الاتجاهات التاريخية، فإننا نعلم أن ساعات العمل قد انخفضت، بسبب التكنولوجيا في المقام الأول، حيث تقوم التكنولوجيا بالكثير من الوظائف التي قام بها البشر، وبات البشر بحاجة إلى عمل أقل وبتوزيع هذه الساعات أو الأيام على السكان نجد أن ساعات العمل حتما ستنخفض، والسبب في اعتقادي أن سياسة أسبوع عمل مدته أربعة أيام قد يستمر ليس في الواقع بسبب التكنولوجيا، وإنما بسبب الاتجاهات الاجتماعية، وعلى وجه التحديد، لأن العديد من الآباء الآن لديهم دخلان أو دخل الزوج والزوجة، وبالتالي عندما يكون لديك دخلان، يكون العمل لمدة 10 أيام من أصل 14 يومًا صعبًا للغاية، مع القليل من الإجازة، لذلك أعتقد أن هذا الحملة لجعل أسبوع العمل مدته أربعة أيام بالخارج ستشكل ضغطا حقيقيًا في تغيير طبيعة وسوق العمل وخاصة في ظل حالة الاستخدام المتزايد للتكنولوجيا والحفظ على مستويات مرتفعة من الإنتاجية بسبب الحالة الإيجابية التي سيتمتع بها العاملون جراء العطلة الطويلة والتي تساعدهم في رفع حالة التوازن العائلي والنفسي. أستطيع أن أرى المزيد والمزيد من الأشخاص يقولون بالفعل "أريد أن أعمل أربعة أيام في الأسبوع، خمسة أيام أكثر من اللازم. ليس لدي الوقت الكافي للقيام بكل الأشياء التي أحتاج إلى القيام بها فيما يتعلق بالإدارة، وتربية الأطفال، ورعاية الوالدين الأكبر سنًا. أعتقد أنه أمر غير إنساني أن يعمل الزوجان خمسة أيام كاملة في الأسبوع. أستطيع أن أرى كم هو منهك ومرهق. لذلك أعتقد أنه سيكون هناك دفعة من أجل ذلك. لكنني أعتقد أن مسألة الوقت ستدرج أيضًا على جدول الأعمال؛ حيث إن هناك عنصرين من المرونة، واحد هو المكان والآخر هو الوقت. أعتقد أننا اكتشفنا حقًا جزء المكان أثناء وبعد جائحة كوفيد-19. لكننا الآن نستكشف أيضًا قريبا ما إذا كان بإمكاننا أن نكون أكثر مرونة بشأن العنصر الآخر في العمل وهو الوقت.
 
الاتجاه الثاني: انضمام كثير من الأفراد لسوق العمل في ظل تصاعد آثار الأزمة الاقتصادية وغلاء المعيشة. حيث أن هناك أشياء كثيرة تحدث من حيث ارتفاع نسب التضخم، من حيث ارتفاع تكلفة المعيشة، ونحو ذلك المشاكل. فمن الصعب للغاية التنبؤ بسوق العمل والتنبؤ بما يفعله الناس، لكن من المؤكد هو أنه خلال الأوقات التي يشعر فيها الناس بالقلق بشأن دخلهم، قلقون بشأن مدخراتهم، فالناس حتما سيبحثون اكثر عن فرص أكثر للعمل في محاولة لزيادة الدخل للتعامل مع آثار الأزمة الاقتصادية الراهنة. لذلك يمكننا توقع زيادة عدد العاملين. كما أن حقيقة الواقع الآن بالفعل هي أنه في معظم بلدان العالم ترتفع بها بالفعل مستويات عالية جدًا من المشاركة في العمل والتوظيف للتعامل مع قضية زيادة الطلب المكبوت من تداعيات العودة بعد الأغلاق الخاص بجائحة كوفيد-19.
 
الاتجاه الثالث: تغير ميزان القوى مجددا في الحرب على المواهب. يتغير ميزان القوى مرة أخرى في الحرب على المواهب. حيث يتحدث كثير كبار المسؤولين عن تغير قادم في ميزان القوى بين الموظف وصاحب العمل، قد تؤدي الظروف الراهنة إلى فقدان الموظف ميزة الحرية في تغيير وظيفته والتحرك بمرونة داخل سوق العمل. ولن يعد من الممكن رؤية مشهد بها كثير من الأشخاص الموهوبين يغادرون منظماتهم. أعتقد أن هذا التوازن سيتغير مرة أخرى مع شدة الظروف الراهنة في سوق العمل. هذا الحالة أدت بوضوح إلى قلق العاملين بشأن فقدان وظائفهم وسيكونون أقل عرضة للتحرك بحرية بحثا عن وظائف أو فرصة أخرى. من ناحية أخرى يحاول أرباب العمل في ظل الظروف الاقتصادية الحالية إلى العودة إلى سياسة التوظيف التقليدي والتي أعطتهم فرصة لدحض فكرة مرونة الموظف في تغيير حالته الوظيفية وكذلك العمل على إضعاف قوته في التفاوض على بشأن شروط أكثر تفضيلا في التوظف.
 
الاتجاه الرابع: رغبة الموظفين تتزايد في البحث عن مزيد من الاستقلالية في أداء أعمالهم. يريد معظم الناس الذهاب إلى العمل ويشعرون ويريدون مزيد من الاستقلالية. فعندما تمنح الشركة المرونة، فإن ما يحصل عليه الفرد هو الاستقلالية. هذه الاستقلالية تجعل الموظف أكثر حرية في تحديد أولوياته وتحقيق التوازن الملائم وفقا لظروفه الخاصة بين متطلبات الوظيفة ومتطلبات الحياة والأسرة. فقد يقتطع الموظف ساعتين من العمل لحضور عرض مسرحي مثلا احتفالا بعيد ميلاد أطفاله. هذه الحرية تمنح الموظف سعادة تجعله أكثر ارتباطا بمنظمته لكونه يرى بوضوح نوع من الاستقلالية ساعده في إسعاد من حوله وجعله يحقق أهداف شخصية بالتوازي مع تحقيق أهداف وظيفته داخل المنظمة، أن الناس بحاجة إلى الاستقلالية، فهم بحاجة إلى خيار حول كيفية عملهم، ومتى يعملون، وايضا بحاجة إلى اختيار مكان عملهم.
 
الاتجاه الخامس: العودة مجددا للمكتب ورفض فكرة العمل من المنزل. من الواضح بعد جائحة كوفيد-19 سيتجه العاملون للعودة إلى العمل بالمكتب من أجل الصداقات وقتل حالة العزلة والملل التي يشعرون بها من العمل خارج منظماتهم. من خلال ما يطرح في حوارات العاملين حول العالم اتضح أن سبب عودة الكثير منهم إلى المكتب هو أن لديهم أصدقاء في العمل حيث إن الصداقة شيء يسعدهم ويحبونه. التحدي الذي يواجه الرئيس التنفيذي لأي شركة الأن هو تصميم العمل حول هذا المفهوم. العمل بالمكتب يخلق فرصا للأفراد للتواصل مع بعضهم البعض وربما التحدث عن أشياء مهمة، أو الضحك أو تناول الغداء معًا. قد يساعد المنزل الفرد على أداء المهام التي تحتاج إلى تركيز شديد بينما يتيح المكتب الفرصة للأفراد للعمل وسط اصدقائهم والاستفادة من وجودهم حولهم. 
 
وفي الختام نقول ان على الشركات تفهم الاتجاهات الحديثة في سوق العمل والآثار المترتبة عليها وضرورة توفيق ممارسات إدارة الموارد البشرية لتساعد بل وتعكس استيعاب الشركات للتغيرات المتوقعة في سوق العمل وطبيعة وماهية هذه التغيرات. ومن هنا رصدنا في حديثنا اليوم عدد من الاتجاهات الحديثة في طبيعة العمل ومستقبله ومنها: ضرورة تقصير عدد أيام العمل، تزايد رغبة الأفراد في الالتحاق بسوق العمل لتحسين مستوى دخولهم، تغير ميزان القوى في موضوع الحرب على المواهب، ميل الأفراد إلى الشعور بالاستقلالية، واخيراً العودة إلى المكتب ورفض فكرة العمل بالمنزل. هذه الروشتة هامة في التشخيص لقراءة خصائص سوق العمل وتحديد نوعية الاستجابة له.
 
بالإضافة إلى ذلك، سيكون هناك حاجة من قبل منظمات اليوم لإدراك اثار العديد من التحولات في إدارة البشر منها (1) التحول من العمل مقابل الدخل إلى العمل كتعبير عن الهدف، (2) التحول من التركيز على العمل الجماعي إلى التركيز على النهج الشخصي، (3) التحول من فرضية ان التكنولوجيا "من الجيد امتلاكها" إلى التكنولوجيا كمحرك رئيسي للعمل، (4) التحول من رتم العمل البطيء إلى السريع إلى الأسرع عند التركيز على المشكلات العاجلة الملحة الحالية، (5) التحول من الحدس والتحيز إلى العمل القائم على الأدلة وبناءً على التحليل، (6) التحول من المنظمات الهرمية الصارمة إلى نظام بيئي شبكي مفتوح، (7) التحول من الخطط طويلة المدى إلى التجريب، باستخدام أساليب التفكير المرن المنظم، (8) التحول من إرضاء الرئيس إلى خلق تجربة هادفة للموظف، (9) التحول من التعلم في الفصول الدراسية إلى التعلم اثناء العمل، (10) التحول من الإدارة البيروقراطية للموارد البشرية إلى عمليات الموارد البشرية التي التركز على العميل،(11) التحول من الموارد البشرية القائمة على الوظيفة إلى الموارد البشرية القائمة على المهارات، (12) التحول من النظر إلى محترفي الموارد البشرية كمستشارين ومراقبين إلى النظر اليهم كناشطين، (13) التحول من الموارد البشرية للأشخاص المسجلين في كشوف المرتبات إلى الموارد البشرية للنظام البيئي، واخيرا، (14) التحول من النظر إلى الموظفين كخاضعين إلى النظر اليهم كمبدعين مشاركين مستقلين. كل هذه التحولات والاتجاهات الحديثة تشكل إنذارا بضرورة تغيير فلسفتنا ومداخلنا في التعامل مع طبيعة العمل في السنوات القادمة لكي نرسم مستقبل مرتكز على نظرة سليمة لواقع العنصر البشري في امتنا العربية.
 
 * عميد كلية التجارة جامعة القاهرة

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: