في نهاية كل عام، يهفو القلم إلى التحديق والتحقيق في حصاد عام يوشك على الغروب، حتى يفسح الطريق لشروق عام جديد، وإن كان الزمن لا يقاس بالأيام والسنين بقدر ما يقاس بغزارة الشعور من عدمه، كأن آلة الزمن لم تعد هي فقط، المقياس لعصر كل شيء فيه ينسى بعد حين، عصر ثوابته أكثر من متغيراته، وما بين الثابت والمتغير.. تتحول الأيام، وتتلون الآلام، وتتباعد المسافة بين التصورات والتصديقات، وتلك الأيام يداولها العزيز الحكيم بين الناس.
لحظة.. لحظتان.. ثلاث لحظات.. أبذل جهدًا جهيدًا لوقف عقارب الساعة إلا قليلا، وأفتح صفحات مفكرتي الخاصة لعام 2022 كتقليد راسخ يقترب عمره من حوالي الخمسين عامًا.
وما بين الاستدعاء والانتقاء، والاستشهاد بالشواهد الدالة والمشاهد الماثلة، ومطابقة التصورات للتصديقات، أقلب السطور وما وراء السطور، في صفحات هذه المفكرة، برحيقها وحريقها، بزهرها وشوكها، بدهائها وبساطتها، بنورها ونارها، بقلمها وألمها، لعلي أجد على النار هدى فكريًا، أو بعض هدى.
ورحم الله استاذنا توفيق الحكيم، فقد بث فيَّ هذه العادة القيمة، إذ كان يحتفظ في جيبه بمفكرة صغيرة يسجل فيها ما يعجبه من حكمة نادرة، أو قول مأثور، أو عبارة مضيئة، وكان كما قال لي في إحدى جلساتي معه، يغيرها كل عام بعد أن تمتليء، فهي مخزون خلاصة تجارب شرائح من حياته وحيوات الآخرين، والحياة تتواصل والأجيال أيضًا، وللأفكار أجنحة لا تحدها حدود، لاسيما إذا كانت قادرة على اختراق الزمان، وتجاوز المكان، والتحليق داخل الإنسان أنَّى كان، ومنذ أن اقتربت من شيخنا في منتصف عقد السبعينيات مع أولى خطواتي في شارع الصحافة، حتى رحيله رحمه الله في 26 يوليو 1987، وأنا أعتز بهذا التقليد إلى يومنا هذا، على الرغم من تنوع وتطور وسائل حفظ المعلومات وتخزينها واتساع فضاءات الميديا وغواية الصورة، لكن تظل الكلمة المطبوعة سيدة الأوعية الفكرية، وإذا كانت الكلمة المنطوقة تنتقل والكلمة المكتوبة تلتزم، فإن كل المعطيات حولنا تؤكد أن عصمة الفكر ستظل في يد الكلمة المطبوعة، رغم طوفان «الميديا» والعالم الافتراضي، وسيظل التأكيد القوي على أهمية «الحرف» في كل ثقافات العالم.
** مفارقات
- «سوط» الله، لا «صوت» له..!
- حتى الملائكة تكرهها الشياطين
- لماذا يحب أحدنا أن يأكل لحم أخيه ميتًا فلا نكرهه؟
- سقطت شجرة فسمع الكل صوت سقوطها.. بينما تنمو غابة كاملة ولا يسمع لها أي ضجيج، الناس لا يلتفتون لتميزك بل لسقوطك..!
- لا تتألم إذا أنكر أحدهم فضلك عليه، فـأضواء الشوارع تُنسى في النهار.
- لا توجد شجرة لم يهزها ريح، ولا يوجد إنسان لم يهزه فشل، لكن توجد أشجار صلبة،.. ويوجد أشخاص أقوياء فهل تكون منهم؟
- الصواعق لا تضرب سوى قِمم الجبال الشامخة، وأما المنحدرات فلا تذهب إليها إلا المياه الراكدة، والـَمرءُ يُبتلى على قدر دينه.
** حوارية
- حتى سلالم المئذنة ملتوية..!
- حتى سلالم المئذنة ملتوية..؟!
- لكي تطلعك بسهولة.. وتصعد عليها في أمان.
- ألا بد من الالتواء والتعرج؟
- إذن الخط المستقيم ليس أقصر الطرق بين نقطتين؟
- أليس أحيانًا لابد أن تحني رأسك للعاصفة قليلا؟
- ربما.. وإن كان الانحناء ممقوتًا.
** نفحات..
- الورد لا يبوح باحتياجه للماء، إما أن يسقى أو يموت بهدوء.
- بعض المنعطفات قاسية! لكنّها إجبارية لمواصلة الطريق..!
- لا تبكِ على ﻭﺳاﺩﺗﻚ.. فلن ﺗﻐير ﻣﻦ ﺍﻷﻣﺮ ﺷﻴﺌًا، ﻗُﻢْ وابكِ على سجادتك ﻭﺳﻴﺮﺯﻗﻚ ﺍﻟﻠﻪ ﺑﻌﺪ ﺍﻟﻌﺴﺮ ﻳﺴﺮًﺍ..!
- نبحث في جيوبنا عن أقل فئات النقود كي نتصدق بها، ثم نسأل الله أن يرزقنا الفردوس الأعلى، ما أقل عطايانا، وما أعظم مطلوبنا..!
- هناك قلوب لن تحبك مهما أكرمتها، وقلوب لن تكرهك مهما أوجعتها.
- أفضل من يدافع عنك في غيابك.. أخلاقك.
- كل ملك عظيم كان طفلًا باكيًا، وكل بناية عظيمة كانت مجرد خريطة.
- القلوب الرقيقة: مظلومة دائمًا.. ﻷنها أسرع من يفتح اﻷبواب.
** عفريت من الإنس..
- في هذا العصر صار الإنسان عفريتًا من الإنس؟
- يريد أن يكون (إلهًا) حين يظن أنه قادر على التحكم بـ"كن" فيكون {حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} [يونس: 24] وظن هنا بمعنى اليقين.
- احتمال القدرة وارد.. إذن؟
- نعم.. مثل إمكانية النفاذ من أقطار السموات والأرض
{يَٰمَعۡشَرَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِ إِنِ ٱسۡتَطَعۡتُمۡ أَن تَنفُذُواْ مِنۡ أَقۡطَارِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ فَٱنفُذُواْۚ لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلۡطَٰنٖ} [سورة الرحمن: 33]ٍ
- أهي الفتنة؟
- لك أن تصف بما تشاء...
** حريق
- سيطروا على النفط تسيطرون على الأمم، سيطروا على الغذاء تسيطرون على الناس.. «هنري كيسنجر».
- إذا رأيت الناس تكثر من الكلام المضحك وقت الكوارث، فاعلم أن الفقر قد أقبع عليهم، وهم كمن بهم غفلة واستعباد ومهانة، كمن يساق للموت وهو مخمور.. «ابن خلدون، المقدمة»