7 سنوات هي عمر حياتي الزوجية مع جلال.. 7 سنوات لم أجد منه ما جعلني أندم لحظة واحدة على ارتباطي به، ولم أكابد ذلك الشعور الذي طال جل المتزوجات من جيلي أو من يسبقون جيلي.
موضوعات مقترحة
جلال كان نموذجا حرفيا لمعنى السند والظهر والاحتواء، ومن فرط ما كان مثاليًا كنت أكذب على صديقاتي وأدعي عليه ماليس فيه مخافة الحسد، أو أن تكيد لي إحداهن وتحاول الظهور في حياته من خلف ظهري.
الآن.. وبقدر الغصة فيما سأرويه لكم من خلال مذكراتي هذه التي أكتبها بدموعي ودمي إلا أنني لا أعرف كيف خرجت من أزمة كهذه، تضعني في اختبار حقيقي أمام أهم وأجمل شيء في حياتي.
وعلي أن أصبر وأتجاوز أزمتي بل وأحافظ على البقية الباقية من عقلي حينما يمتحن في ثوابته المنطقية، ويشاهد حقا وصدقا وليس من قبيل الضلالات أو الهذيان ما يصيبه بلوثة عقلية.
والآن إليكم ما حدث لي في تلك الليلة المشئومة:
كان البرد قارسا شديدا كعادة الشتاء في مصر يغيب ويتأخر ثم يأتي قاتلا بلا هوادة، وكان المطر غزيراً يعيق السيارات عن السير ويعطل حركة المرور ويصيبها بالشلل التام.
فما كان من (جلال) إلا أن قال لي:
- حبيبتي باقولك إيه.. احنا كده مش هنلحق نجيب حاجة عيد الميلاد كلها النهارده.. ولسه هنروح نوصي ع التورتة.. أصلا عبال ما نخرج من هنا هتكون كل المحلات قفلت.
= طب إيه يا جلال.. عايز نعمل إيه؟
- أنا شايف إننا نركن العربية هنا وننزل نتمشى المسافة اللي فاضلة لحد المول.. أهو نخلص من حاجة عيد الميلاد والتورتة ممكن نلحق نوصي عليها بكره الصبح.
= والله فكرة.. بس هنتبهدل في المطر شوية
- مش مهم كل الحكاية كيلو ونص مثلا.. ده المول هناك أهو.. صدقيني لو فضلنا في العربية مش هنخلص حاجة النهارده.
بالفعل قام (جلال) بركن السيارة وقررنا الترجل وصلا إلى المول.
كان حديثنا كالعادة ودودا جادا يتخلله الضحك والدعابة، ونحن نسير متشابكي الأيدي على خط جاف لم تطله المياه على الرصيف وكذلك المارة، ولا أدري كيف يرون مسارهم فوق رصيف مظلم وجو مطير كهذا.
لم يقطع مسارنا سوى عارض قدري فاصل قسم حياتي نصفين مغيرا المسارات وقالبا الموازين.
ثانية واحدة تغير فيها مصير حياتي، حين أدخلت يدي في حقيبتي بحثا عن الموبايل الذي يرن والتفت فلم أجد (جلال).
تماما كما يحدث في الأفلام والسينما، فصرت أتلفت حولي وأنادي وليس في بالي إلا أنه يمازحني مختبئا في زحام السيارت والناس على الرصيف المظلم.
ولم أنتبه لصوت الناس من حولي وهم يصرخون:
يا عالم.. يا ناس.. اطلبوا النجدة نخرج الجدع ده م البلاعة!!
لقد سقط (جلال) في بالوعة مفتوحة!!!
مر الوقت قاتلا لكل أعصابي ومشاعري، وبعد 4 ساعات من الانهيار العصبي والبكاء الهستيري والصراخ حتى ضاع صوتي، كنت لا أفقد الأمل خاصة أنني بعد مرور ساعة واحدة من الأربع ساعات سمعت صوته ينادي ويستغيث، في الظلام دون أن أراه فعمق الحفرة كبير جدا، وحينما قمت بالرد عليه أجابني فزاد لوعة قلبي وضاعف شعوري بالهلع من أن يكون هذا آخر حديث بيني وبين حب عمري، وأن يكون فراقنا بهذه الطريقة المربكة المهينة، اللهم لا اعتراض !!
ولكن.. هاهي الحياة ابتسمت لي مجددا، واستجاب الله لدعواتي له بالنجاة، ومع شروق الشمس كانت محاولات الشرطة والإسعاف والنجدة قد أفلحت في التقاطه وإخراجه في حالة إعياء شديدة.
كان محطما ينزف من رأسه وقدميه لا يقوى على الكلام واستسلم لإغماءة طويلة بمجرد أن وضعوه على نقالة الإسعاف وأدخلوه السيارة.
مر أسبوعان وأنا والعائلتان لا نتوقف عن متابعته والاستبشار بتحسنه وتطور حالته السريع، حتى جاء موعد خروجه، ومعه بداية جديدة لحياة أخرى كتبها الله لي حين أنقذ جلال من الموت، إذ كيف أحيا بدون وجوده، وهل للحياة معنى بدونه؟!
كان يوما حافلا مع الأهل والأحباب، يوم عودة زوجي لبيته ناجيا من الموت المحقق، في هذا اليوم اجتهدت أمي وحماتي لعمل كل ما يحبه ويعشقه من طعام.
وبينما نحن نتجاذب أطراف الحديث المرح والدافئ فوق سفرة الطعام، سقطت مني الملعقة فانحنيت لالتقاطها فإذا بي ألمح ما كنا نتندر به في السينما، وقد أكون في غمرة هذيان وهلاوس لكن عيني الآن لا تكذب.
لقد شاهدت قدمي زوجي حوافر ماعز تتأرجحان لا تصلان إلى الأرض، فاعتدلت في جلستي وأكملت حديثي واستماعي، وكررت النظر مجددا فإذا بي أجد قدماه طبيعيتين.
فماذا حدث لي؟.. ولماذا تعرضت لهذه الضلالات؟.. هل هذا بدايات فصام عقلي جراء انهياري العصبي وهلعي وقت الحادث؟!
لا.. بل هي مجرد هلاوس؟.. لا ضير ولا قلق.. وسأسأل عنها طبيب صديقتي النفسي الذي تتردد على عيادته منذ وفاة طفلها الوحيد غارقا في حمام السباحة.
ربما حملت تلك اللحظات العصيبة نوعا من الأوهام والاختلالات المؤقتة ثم تعود الحياة لطبيعتها.
بعد مرور شهر كامل كنت في غرفة استقبال هذا الطبيب النفسي حين ذهبت مستنجدة به بعد طوفان من الضلالات والأوهام صار يجتاح حياتي ويثيرني بالذعر وينفرني من زوجي.
فـ (جلال) ليس جلال في طباعه ولا سكناته وحركاته ولا حتى أخلاقه حين علمت أنه احتسى مشروبا كحولياً لأول مرة في حياته مع أحد أصدقائه، وطلب مني في علاقتنا الخاصة أموراً غير طبيعية يأباها الشرع ويقذرها، فضلا عن ضربه العنيف للأولاد وهو الذي لم يسب أحدهم مرة خلال تربيته لهم.
وبغض النظر عن عصبيته الزائدة وسرعة اعتذاره عن كل كارثة أخلاقية يقوم بها، إلا أن ما دفعني للهروب إلى الطبيب النفسي كان اتهامي لنفسي بالخرف والهلاوس، بعد أن شاهدته أكثر من مرة وأنا مستيقظة ولكن أدعي النوم يسير في الغرفة بساقي وحوافر ماعز.
وأاسفاه على عقلي الذي ذهب! لقد صرت مريضة فصام عقلي وصرت أرى ما لا يراه الناس؟!
هذا الشعور التي كدت أحيا بها عمري كله لولا أن الحقيقة تأتي كالصاعقة تضرب ولا تبالي وعلينا نحن أن نصدق أو نكذب!!
حين جاءتني هذه المكالمة من قسم شرطة الدقي فكفكفت دموعي وعدلت من صوتي حتى أرد:
- مساء الخير.. الأستاذة ندى؟!
= أيوا يا فندم مساء النور
- حضرتك مش فاكراني.. أنا النقيب أيمن الهواري من قسم شرطة الدقي.. أنا اللي كنت في الحملة اللي خرجت زوج حضرتك من بلاعة شارع مصدق
= اااه أهلا بحضرتك.. خير؟!
- أستاذة ندى أنا محتاج حضرتك عندي هنا في القسم علشان فيه حاجة غريبة جدا أنا مش فاهمها.
= خير يا سيادة النقيب.. أنا مش ناقصة الحقيقة فيا اللي مكفيني فلو نقدر نأجلها مهما كانت الأسباب
- مش هنقدر للأسف لأنه شيء محير وماحدش هيجاوب عليه غير حضرتك
= اشمعنى أنا يعني؟!.. .وحضرتك ليه مش عايز تقول بوضوح وعلطول في المكالمة دي أنا آسفة يعني ؟!!
- طب سيبك م الشيء المحير.. ده مش شغلي ده شغل النيابة بعد كده.. المهم بالنسبة لي تيجي تتعرفي ع الجثة وتستلميها.
= جثة؟!!!.. جثة مين؟!!
- جثة زوج سعادتك.. الأستاذ جلال حسن النشار.. من ساعة بس لاقيناها من خلال أعمال حفر وإصلاحات لمواسير المجاري في المنطقة.
= إنت بتقول إيه؟! بتقول إيييه؟ أومال اللي معايا في البيت ده مين؟
- ما أعرفش.. علشان كده هنحتاجك في تحقيق رسمي نفهم اللي خرج معاكي يوم الحادثة ده مين؟
حكايات قبل الموت
حكايات أخرى من السلسلة:
الجنازة حارة !
لعنة ليلة الدخلة!
ثلاث دقات
أشباح السيارة الخالية! (1)
أشباح السيارة الخالية! (2)
وارد المشرحة
إعدام عشماوي
سعاد المحروقة
حفيد إبليس
حديث الوسادة الملعونة
مسجد الجن