إذا كانت صحة الجسم تاجا على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى، فإن الصحة النفسية هي الأهم والأولوية القصوى، فلا يعرف مقدار الألم النفسي المرضي سوى من مر به بحق. وإذا كنا نتحدث عن أهمية بناء سوي لأطفالنا، فإن الوعي بأدوات البناء السليم لنفسية أطفالنا أصبح ملحا في عالم يزداد غربة وصعوبة على الأجيال القادمة. ولعل الطبيعة من أهم أساسيات هذا البناء، فلا تتركي طفلك حبيس الجدران رهين شاشات التلفزيون والكمبيوتر والهاتف، بل ادفعيه إلى الانطلاق في الطبيعة؛ ليزداد ذكاء وحيوية وتكتمل صحته الجسدية والنفسية. «الأهل لهم دور كبير في بناء صحتنا النفسية، وفي دعم صحة الأطفال العقلية. وبلا شك تعتبر الرعاية والمحبة أساسا قويا لدعم الطفل والعمل على تطوير المهارات الاجتماعية والعاطفية التي يحتاج إليها ليحيا حياة سعيدة وصحية ومثمرة»، هكذا بدأت استشاري طب النفس والعلاقات الأسرية د. هالة البنداري حديثها معنا.
موضوعات مقترحة
وتستطرد قائلة: الآن واقعنا فرض موضوعات كثيرة أصبحت في صدارة الأهمية. عندما يأتيني في العيادة أم أو أب ومعهما طفل وقد انتابهما بعض القلق حياله، فإن أول ما أسألهما هل يقضي طفلكما وقتا كافيا بين الخضرة والطبيعة؟ في بداية الثمانينيات ظهر مصطلح جديد بساحة الطب النفسي، وهو «البوفيليا» الذي يرمز إلى احتياج وانجذاب البشر بفطرتهم إلى البيئة الخضراء والطبيعة البكر. صاحب هذه النظرية كان عالم أحياء من جامعة هارفارد يدعى إداواردو ويلسون، الذي أكد أن جزءا مهما من سلامة الإنسان النفسية عموما، والأطفال على وجه الخصوص، يعتمد على التعرض للطبيعة بشكل كاف.
تقول د. هالة: نحن نعيش في وقت ظالم للأجيال الصغيرة التي نجدها حبيسة غرف المعيشة والألعاب الإلكترونية والهواتف المحمولة وما شابه. نجد أنفسنا محاطين بمغريات مجتمعية لاصطحاب الأطفال والترفيه عنهم في المولات والأماكن المغلقة المكيفة، وأصبحنا نستصعب فكرة تنظيم نزهات في الخارج والبحث عن مساحات من الخضرة، وخلق تجارب طبيعية للطفل، وهذا بدوره يخلق ظاهرة نطلق عليها نحن المختصين اسم «متلازمة نقص الطبيعة» nature deficit disorder. وتقول الإحصاءات إن التحول التكنولوجي جعل الطفل الأمريكي، على سبيل المثال، يقضي يوميا في المتوسط من 4 إلى 7 دقائق فقط في اللعب خارج المنزل، بينما يبلغ متوسط الوقت الذي يقضيه أمام الشاشات سبع ساعات، وهو رقم دال وصادم.
عقل سعيد ونابه
قبل فترة استضافت إلين دي جينيريس الإعلامية الأمريكية ريتشارد لوف، الذي كان قد أصدر لتوه كتابا يحمل عنوان «آخر طفل في الغابة» ليصف فيه تلك الأزمة، وحظي الكتاب باهتمام كبير من المختصين والتربويين. قال ريتشارد لوف حينذاك: إنه في أثناء استشارة سأل طفلا في الخامسة من عمره يعاني أعراض قلق واكتئاب: لماذا لا تحب الخروج في الهواء والطبيعة؟ فقال: لأنه لا توجد منافذ كافية للمقابس الكهربائية، وهذا يسبب لي هلعا وقلقا! ويشرح لوف في كتابه الأسباب التي تشير إلى أهمية التعرض للطبيعة بالنسبة للصحة النفسية، فيقول: كشفت الدراسات الحديثة عن فائدة - بل ضرورة - قضاء الوقت في الهواء الطلق، للأطفال والكبار على حد سواء. البعض يقول إن المقصود هنا هو أي بيئة خارجية، أي خارج المعمار والجدران، والبعض الآخر يقول إنها يجب أن تكون بيئة خضراء، أي بيئة بها أشجار وأوراق. واللافت للنظر أن بعض الدراسات تشير إلى أن مجرد صورة الخضرة يمكن أن تفيد الصحة العقلية. بغضّ النظر عن هذه الفروق تتفق معظم الدراسات على أن الأطفال الذين يلعبون في الخارج هم أكثر ذكاء وسعادة، وأكثر انتباها وأقل قلقا من الأطفال الذين يقضون وقتا أطول في الداخل. ويستطرد لوف في كتابه عن العناصر
التي أثبتت الدراسات من خلالها كون الطبيعة مفيدة لعقول الأطفال:
أولا: الطبيعة تبني الثقة بالنفس، فالطريقة التي يلعب بها الأطفال في الطبيعة محاطة بإمكانات أبسط وأقل بكثير من معظم أنواع اللعب في الأماكن المغلقة. هناك طرق لا حصر لها للتفاعل مع البيئات الخارجية، والسماح لطفلك باختيار الطريقة التي يعامل بها الطبيعة يعني أن لديه القدرة على التحكم في أفعاله.
ثانيا: اللعب في الطبيعة يعزز الإبداع والخيال، ويسمح للأطفال بالتفاعل والتفكير بحرية أكبر، وتصميم أنشطتهم الخاصة، والتعامل مع العالم بطرق مبتكرة.
ثالثا: هناك جانب من تعامل الطفل مع مفردات الطبيعة يبني فيه الدراية ويعلم المسؤولية. تموت الكائنات الحية إذا تعرضت لسوء المعاملة أو لم يتم الاعتناء بها بشكل صحيح، ويعني تكليف الطفل بالعناية بالأجزاء الحية من بيئته أنه سيتعلم ما يحدث عندما ينسى سقي نبات، أو اقتلاع زهرة من جذورها، وهكذا.
وجهان لعملة واحدة
رابعا: وهي نقطة بالغة الأهمية يجب عدم إغفالها،أن اللعب في أجواء الطبيعة يساعد على تنمية الذكاء الحسي. يقول لوف: قد تبدو الطبيعة أقل إثارة من لعبة فيديو ابنك العنيفة، ولكنها في الواقع تنشط المزيد من الحواس. يمكنك رؤية وسماع وشم ولمس أشياء عديدة مثلما خلقها الله. ويحذر قائلا: عندما يقضي الأطفال وقتا أقل في محيط طبيعي، تضيق حواسهم، وهذا يقلل من ثراء التجربة الإنسانية.
خامسا: وهذا أمر بديهي، فإن اللعب في الهواء الطلق والمساحات المفتوحة يجعل الأطفال يتحركون. فأي مجال للعب يتضمن طرق التفاعل مع الطبيعة وحركة ولو بسيطة، فليس من الواجب على طفلك – مثلا - الانضمام إلى فريق كرة القدم أو ركوب الدراجة، فحتى المشي سيضخ دمه في العروق وينشط صحته. أيضا لا تعتبر التمارين مفيدة فقط لأجسام الأطفال، ولكنها تجعلهم أكثر تركيزا، وهو أمر مفيد بشكل خاص للأطفال المصابين باضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه.
سادسا: الطبيعة تقلل من الإجهاد والتعب فيما يتعلق بـ «المجهود المستنفد في الانتباه»، وهذا على النقيض تماما مما هو شائع. يشرح لوف في كتابه هذا قائلا: وفقا للأبحاث تتطلب البيئات المغلقة والبعيدة عن الطبيعة ما يسمى بالاهتمام الموجه، ذلك الذي يجبرنا على تجاهل المشتتات واستنفاد أدمغتنا. أما في البيئات الطبيعية فإننا نمارس نوعا من الانتباه من دون مجهود، والذي يخلق مشاعر المتعة وليس التعب.
سابعا: وأخيرا، يقول لوف في كتابه: إن اللعب في الطبيعة يجعل الأطفال يفكرون. الطبيعة تخلق إحساسا فريدا من الدهشة لدى الأطفال لا يمكن لأي بيئة أخرى توفيره. إن الظواهر التي تحدث بشكل طبيعي في الساحات والحدائق تجعل الأطفال يطرحون أسئلة حول الأرض والحياة والكائنات. لذا في حين أن خيار ترك الأطفال أمام الشاشات هو الخيار الأسهل والأكثر شيوعا، فمن المهم تخصيص وقت للعب في الهواء الطلق، وهذا من أهم أوجه الدعم لبناء صحتهم النفسية.