انتهى وقت المحاضرة، خرجت مسرعًا من جامعة عين شمس لاستقلال القطار من محطة مصر والعودة إلى طنطا، وصلت مبكرًا، ما زالت هناك ساعة ونصف حتى يتحرك القطار، فرصة رائعة للراحة من عناء يوم طويل يبدأ منذ السادسة صباحًا لحضور المحاضرات، لحسن الحظ أن القطار موجود بالفعل على الرصيف المخصص له، دخلت القطار وألقيت بنفسى بجوار النافذة ونمت.
استيقظت على صوت الركاب الذين ملأوا القطار، ساعتي تشير إلى السادسة والنصف والقطار لم يتحرك! هناك تأخير نصف ساعة، سألت من حولى قالوا هناك حادث فى قليوب وغالبًا سوف يتخذ القطار طريق القناطر، قلت لنفسى حسنًا المهم أن يتحرك لم أخض تلك التجربة من قبل ولا أعلم ما هو طريق القناطر.
بدأ القطار يتحرك فى تمام السابعة، أمسكت بكتبي وبدأت أتصفحها وفجأة اختفت أضواء وضوضاء الطريق الزراعي وعم الظلام والصمت على كل شيء، قالوا لي هذا هو طريق القناطر..حسنًا.. لكن ما هذا الظلام ألا توجد محلات على الطريق أو سيارات؟ حدق أحدهم فى وجهي متسائلًا: أظنها المرة الأولى التى تسلك فيها هذا الطريق؟ أجبته: نعم، فقال بصوت عالٍ: طيب إوعى تعملها تاني، وانطلق ضاحكًا هو ومن معه، وأنا أيضًا معهم ظنًا مني أنها نكتة حسنة النية، لذلك تابعته قائلً : والله ما كنت أقصد، لابد أن أحدهم دفعني إلى داخل القطار، وضحكنا مرة أخرى ثم قال: أكيد لم تكن تقصد، عمومًا "عيش حياتك"... هذه أيضًا اعتبرتها نكتة.
لم أفهم قصده من عبارة "عيش حياتك" إلا عندما توقف القطار لمدة نصف ساعة، فى ظلام دامس يقطعه على استحياء شعاع نور منهك مقطوع الأنفاس، يخرج من "لمبة" وحيدة فى وسط عربة القطار، سمعت أحدهم يقول بصوت الخبير العالم ببواطن الأمور أن القطار ينتظر القطار المقابل؛ لأن الطريق فردى، سألت هل سوف يتكرر هذا الأمر مرة أخرى؟ وتأتي الإجابة من الجار الضحوك: ألم أقل لك عيش حياتك، طبعًا سوف يتكرر طول الليل حتى نصل.
استوقفته بسرعة: طول الليل! ماذا تقصد؟ المسافة بين القاهرة وطنطا مجرد ساعة ونصف! سكت عن الضحك وقد أدرك مأساتي: هل هي المرة الأولى فعلًا لك على هذا الطريق؟ قلت نعم، نظر الرجل إلى وجهي نظرة مشفقة احترت لها وقال مبتسمًا: حاول أن تشغل نفسك بأي شيء، لن نصل قبل منتصف الليل في أفضل الأحوال، وربما بعد ذلك، ثم عاد للضحك مرة أخرى صارخًا بشكل هستيري "ياللا عيش حياتك، كله يعيش حياته".
رغبت بشدة أن أكتم فمه حتى يصمت، أيها الأحمق كلماتك تشعرني أن القطار لن يصل، وكأننا سوف نقضي بقية حياتنا في داخل هذا القفص الحديدي، الغريب والمرعب أن ترى الركاب يتعايشون مع الأمر بشكل عادي! جعلوني أشعر أنني غريب في المكان ومرت حوالي ساعة وأنا على هذا الحال، مندهش ومذهول أنظر حولي فقط إلى تلك الوجوه التي بدأت "تعيش حياتها" بشكل تلقائي وسريع وكأنه الأمر المعتاد لهم.. طبعًا هذا القطار كان درجة ثالثة، يعني قطار الغلابة والطلبة أمثالي المجاهدين في سبيل العلم.
الساعة الآن الثامنة، ما زال الوقت طويلًا، حاولت القراءة لكن نفسي لم تتقبل الأمر، قطع حبل أفكاري صوت سيدة تجلس في الجوار تنادي على أخرى: أم نبيل، هل معك بعض قطع الخيار أو الطماطم؟ جاء صوت أم نبيل متكاسلًا، يبدو أنها كانت نائمة: لا يا أم محمد.. فجاء صوت أحد الرجال: أنا معي الكثير منها.. مراتي طلبت مني شراء ثلاثة كيلو طماطم، واثنين خيار، هى معتادة على تجهيز الطعام ليومين أو ثلاثة ووضعه في الثلاجة؟ ألقت أم محمد نظرة سريعة عليه ثم قالت: ربنا يبارك في صحتك وعافيتك يا خويا، وهى الست تحتاج إيه أكتر من كده، ربنا يخليكم لبعض.
أرضت كلمات أم محمد الرجل فنظر حوله في افتخار قبل أن يخرج حبات الخيار والطماطم من شنطة بلاستيك كان يحوط عليها بقدميه ويمسك طرفها بيديه، حتى لا يسطو أحد على كنزه الثمين الذي سوف يعود به.
المهم.. أمسكت أم محمد بقطع الطماطم والخيار وأخرجت سكينًا، ثم بدأت فى تقطيعها ورصها بدقة وحرص على كيس بلاستيك كانت قد فردته أمامها، ثم أخرجت قطع الجبن القريش والبيض المسلوق والطعمية وبعد أن انتهت من إعداد المائدة دعت من حولها لتناول الطعام.
انطلق الجميع لتناول الطعام وأنا أنظر إليهم وفكرة غريبة وحيدة تنصب شباكها حولي، أن القطار لن يصل وأنني سوف أقضي بقية حياتي هنا مع أم محمد وأم نبيل.
فوجئت بالست أم محمد تحدثني: اتفضل يا استاذ، شكرتها وقلت لا أرغب في الأكل، قالت الطريق طويل وشكلك مش متعود عليه، معلش.. أعدت ساندوتش وناولتني إياه، شكرتها وقلت لا أرغب، لكنها اتبعت سياسة "إنت قرفان ولا إيه، وكتاب الله إحنا أنضف من الصيني بعد غسيله" أحرجتني واضحكتني، وأخذت الطعام وأكلت.
ثم جاءت سيدة أخرى لتوزع قطع الجوافة، وأخرى العنب، انتهى وقت الطعام، وفوجدت ببائع الشاي يحضر وكأنه على موعد، ودون سؤال بدأ في توزيع أكواب الشاي علينا، الشاي إجباري في هذا الموقف.
بعد الطعام ساد الصمت لبضع دقائق، وكأن الوضع لم يعجب أم محمد بطلة القصة، أقصد سيدة القطار، وفجأة رأيتها وقد التقطت صندوقًا خشبيًا صغيرًا من أحد الجالسين ووضعته أمامها، ثم التفتت معاتبة من حولها: ما هذا هل سنظل هكذا طول الليل؟ كنت أشعر بالرعب كلما سمعتهم يقولون "طول الليل"، لكن الأمر بالنسبة لأم محمد مختلف، واضح أن لها فلسفتها الخاصة، هي تتعامل مع الأمر باعتباره الواقع وشئنا أم أبينا سوف نعيشه، فلماذا لا نتصالح معه ونصبح أصدقاء؟
قطع صوت أم محمد أفكاري وهي تقول: قولوا معايا "تحت بيت أم فاروق" ويردد الناس معها "هاي هاي".. "الشجرة طرحت برقوق".. "هاي هاي"، يرددون وراءها وهم يتمايلون ويملأون الدنيا بضحكهم، رأيت ضحكًا يخرج من القلوب، هل يضحكون على ما نحن فيه؟ أم أنني الوحيد في هذا القطار الذي لا يزال يفكر في ذلك؟ ربما يضحكون على حالهم وحياتهم بهمومها ومشكلاتها؟ لكن لماذا لا أتصور أنهم يضحكون بالفعل من قلوبهم تاركين وراءهم كل الهموم، يبحثون أو ربما يلهثون وراء لحظة ينسون فيها تلك الهموم ويضحكون من قلوبهم.
انتبهت لنفسي لأجدني أضحك وأصفق وأغني وأردد "هاي هاي" مع أم محمد، وتذكرت على الفور نصيحة جاري في القطار "عيش حياتك".