كاد العالم يتحطم على صخرة المسألة الأوكرانية، صادف ثمانية أشهر عصيبة منذ الثاني والعشرين من فبراير 2022، جرى فيها اصطدام الدب الروسي بالغرب في أوكرانيا، وكانت لحظة فارقة في ترتيب النظام الدولي.
الأسلحة النووية كادت تخرج من مخابئها الحصينة، ووجدت أوروبا نفسها فى أزمة إستراتيجية مركبة، أمنية واقتصادية واجتماعية، مع انكشافها التام أمام خطوط تماس الحرب.
كانت ولا تزال لدى روسيا مخاوف من اقتراب حلف الناتو من حدودها القومية، ومن اقتراب ثقافة التهشيم الاجتماعى التى تتفشى فى الغرب، ولدى الغرب أحلام ثقافية وسياسية يرغب فى سيادتها على كل المجتمعات بلا استثناء.
بين الخوف والرغبة، حبس العالم أنفاسه خلال الأشهر الثمانية الماضية، اقتربت المخاوف من حالة الهلع، كانت النتيجة ركودًا اقتصاديًا عالميًا، وظهور سلاح الطاقة كقاتل اقتصادي للشعوب، ومع اقتراب فصل الشتاء، ثمة مخاوف من معركة مهلكة على الأراضي الأوكرانية، تصل بالعالم إلى هاوية لا عودة منها.
من ثم ظهرت الأفكار المخبوءة في أدراج السياسة، ونشط رجال الظل في الغرب والشرق.
جرت لقاءات عالية المستوى، بين أجهزة الدول الغربية وأجهزة الدولة الروسية بخطاب جديد، يحفظ لروسيا دورها على المسرح الدولي، حسب نصيحة هنري كيسنجر، مع الأخذ في الاعتبار وضع أوكرانيا كدولة تماس بين الشرق والغرب، ويظهر هنا سيناريو الحالة السويسرية، أي الدولة المحايدة، والمحمية من الجميع.
من خلال اجتماع نادر بين وليم بيرنز رئيس الاستخبارات الأمريكية وبين سيرجي ناريشكين، رئيس المخابرات الروسية في العاصمة التركية أنقرة، الإثنين 14 نوفمبر الجاري، نستطيع أن نفهم أن الطرفين وجدا نفسيهما متورطين في حرب شبه عالمية، تكاد تعصف بالجميع، فمن الأفضل للقوتين النوويتين أن تصلا إلى توافق يحفظ سلام العالم، خصوصًا أن اتفاقية ستارت 3 الخاصة بالحد من الأسلحة النووية الإستراتيجية والهجومية، قد حان موعد توقيعها بين البلدين هذا الشهر نوفمبر.
أمريكا نفسها لديها أسرى في السجون الروسية، وتريد استعادتهم، وفي هذا السياق كان الاتصال الهاتفي بين وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن، ووزير الدفاع الروسي سيرجي شويجو، قد سبق لقاء رئيسي جهازي الاستخبارات في البلدين، وكان تمهيدًا للقاء النادر فى أنقرة، كما أن أوروبا لديها مصلحة تامة في استعادة ما قبل الحرب الأوكرانية، لا سيما أن الشتاء المقبل قد يتحول إلى جحيم اجتماعي واقتصادي في القارة العجوز.
في هذه الأجواء هناك مقترحات على الطاولة، قدمتها أوروبا ووافقت عليها أمريكا، ورأتها روسيا بداية يمكن البناء عليها، وأكد وجودها المتحدث باسم الرئاسة الروسية ديميتري بيسكوف.
في ظل هذه الدبلوماسية المتسارعة، العلنية والسرية، هناك توافق على ضرورة إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية، مع اعتبار ما صرح به مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان، بأن لأوكرانيا الحرية الكاملة للموافقة على إجراء مفاوضات مع روسيا، وهي إشارة واضحة لا تخفى على لبيب، وذلك تزامنا مع تصريحات وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن التي قال فيها: إن أمريكا لن تعرقل أى مفاوضات بين أوكرانيا وروسيا، وأن المسألة خاضعة للتقدير الأوكراني.
في اعتقادي أن عمر الحرب يقترب من النهاية، لكن المسألة ستكون بعد إسكات المدافع، وهي أننا اكتشفنا أنه يمكن ان تندلع حروب في أوروبا، بعد أن كادت تنتهي منها بعد الحرب العالمية الثانية، ثم اكتشفنا أن الطاقة القديمة لا تزال صالحة في الاقتصاد إلى أن تظهر الطاقة الجديدة أو المتجددة، وأن انتشار الأسلحة النووية، يعني إمكانية استخدامها للمرة الثانية، وأنه من الأفضل الرجوع إلى المربعات الأولى على الأقل في المدى المنظور.
لكن الأهم الآن هو كيف نجا الإقليم العربي من الاستقطاب في هذه المعركة؟
إنه أمر إستراتيجي مهم، يمكن أن يصبح بعد إسكات المدافع في أوكرانيا كتلة حرجة عالميًا، بعيدًا عن أفكار غربية وشرقية تتطاحن للهيمنة والسيطرة، ووسط تصاعد لثورة الذكاء الاصطناعي الرابعة، فمن يملكها سوف يستحوذ على المكان والمكانة في قلب نظام دولي محتمل، يختلف عن السابق في كل شيء.