يعض الإنسان على أصابعه باكيًا حين يختل إدراكه عن طبيعة مهمته، ويظن أنه نجا ببضاعته الفاسدة، وخدع الناس بشرائهم لها بثمن باهظ، وهو في حقيقة الأمر خسر احترام ذاته، وخلع على نفسه صفة المحتال، وسقط في واحدة من محطات حياته، وإذا انتهج الكذب والغبن سبيلا، ارتضى له التعاسة بديلًا عن السعادة.
ويالها من حسرة أن يطمس الفاسد علي عقله, الذي أعده الله له وشرفه به, ليحيا حياة طيبة, والشرط لكي ينعم بهذه الحياة أن يستعمل عقله في التدبر والتفكر ويحلل ويقارن, حتي يميز بين الخبيث والطيب, فكان العقل أجل نعمة في الوجود, يمنحها الله للإنسان, حتي يرث الله الأرض ومن عليها.
ويرفع الله منزلة الإنسان، ويختصه بعبادته وفق إرادته واختياره، ويقول جل شأنه: "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"، ولو ضل وعصاه لا يرفع عنه غطاء رحمته، ويدنو إليه ويشمله بمعيته، حتى يعلن إصراره على الفساد، ولذا كان التشريف، وجعل العقل مناط التكليف، ومن لا عقل له لا تكليف له.
ومن أجله منح الله الإنسان الكون طائعًا، وسخر له ما فيه من كائنات لخدمته، واقتضت مشيئة الخالق تكريمه، وتشريفه بخلافته على الأرض، ولكن في حال تعديه على قوانين وأحكام الخلافة، ينتقص من تشريفه، ويؤدي دور المفسدين.
والخليفة يقيم البناء، ويحافظ على استقراره، لا يتركه نهبًا للضلال والشهوات، وحتى يبقي الخالق الإنسان يحيا شريفًا ملتزمًا بأداء الخليفة، أرسل له الهدى، ولو أعرض عن اتباع نوره، فقد أختار لنفسه معيشة ضنكًا، وعاش ذليلًا لغير الله، وجلب على نفسه الضرر، وحجب عن نفسه حصد عائدات النفع، فكان جزاؤه عزله من منصب التشريف كخليفة الله على الأرض.
ومن اتبع الهدى ارتقى في الدرجات، واستطاع بذلك أن يعض بالنواجذ على منحة الله وهي التشريف، ومن ثم يبيض وجهه، وينعم عليه المولى عز وجل بنعمة النظر إليه، ويكسو وجهه النضارة، ولا يقتصر العطاء على ذلك، ويبشره الله تعالي بقوله: "لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ".
وحينها يعلم أن ما بذله من مشقة في العبادة، لا يعادل عظمة النظر إلى جلال وجه الخالق، ويستحق منه مزيدًا من التزود باليقين بالله، ويندم هذا العبد لضياع أوقات لم يتحرَ فيها ضوابط هدي أنبيائه، مما يجعله في مقام الاستحياء أمام عطاء الله له، ويشعره بالتقصير نحو توقير المولى وإجلاله.
أما من أعرض عن هداه وذكره، كان جزاؤه الخسران المبين والحرمان من نظر الله إليه، وعليه ما يستحق من عذاب، ويتعاظم عذابه، ويُكتب في سجل الوجوه الباسرة، التي تزل بهم فاقرة، كما في قوله تعالى: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ}، وتُحجب عن رؤية الرحمن، كما في قوله تعالي: "كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون".
Email: [email protected]